كتبت جريدة «الأهرام» فى صدر صفحة الجمعة الأولى: جنازة عسكرية مهيبة للدكتور بطرس غالى، الرئيس وكبار رجال الدولة وقادة القوات المسلحة فى وداع الفقيد. وبطرس غالى قامة لا يقلل أحد من قيمتها. لعب أدورا فى السياسة والصحافة السياسية. وله مذكرات فى أكثر من كتاب، مكتوبة بروحٍ تعيد للعين محبة القراءة. وفى هذه المذكرات ذكر هيكل أكثر من مرة. فضلا عن أنه أصبح أمينا عاما للأمم المتحدة. ولولا التدخل الأمريكى الفج لأكمل مدته الثانية.
ولأن رحيله تقاطع مع رحيل الأستاذ محمد حسنين هيكل ـ وهو من هو ـ فضلا عن أن حياتهما معاً قد تقابلت وتماست أكثر من مرة. وفى كتابات الأستاذ هيكل ذِكرٌ لبطرس غالى على شكل فصول ضمن ما كان يكتبه الأستاذ عن زمانه وناسه ورموزه. لكن الرحيل المشترك لهما فى أسبوع واحد يضعنا أمام السؤال الذى لا مهرب له.
وهكذا وجدنا أنفسنا فى مواجهة السؤال الذى لا مهرب منه: لماذا أقيمت جنازة عسكرية لبطرس غالى؟ وتم الاكتفاء بالجنازة الشعبية المهيبة التى أقامتها الناس للأستاذ هيكل فى سيدنا الحسين. سألت وتقصيت فى الأمر، وما سمعته أن الجنازات العسكرية فى مصر ينظمها قانون من قوانين الدولة المصرية. يحدد من تقام له جنازة عسكرية. وبطرس غالى حاصل على وشاح النيل الذى يلزم الدولة المصرية بإقامة جنازة عسكرية له حين وفاته.
من المعروف عن هيكل ضمن الكثير الذى عرفناه أنه كان عزوفا منذ شبابه المبكر عن قبول الأنواط والنياشين والأوسمة وشهادات التقدير. وعندما ذهبت إلى مكتبه لأول مرة بعد أن ترك «الأهرام» فوجئت بأنه لا يوجد الدولاب التقليدى الذى أراه كلما ذهبت للقاء أحد الذين صنعوا أحلامنا فى ستينيات القرن الماضى.
كان المكتب خاليا من الأوسمة والنياشين والأنواط وشهادات التقدير والدكتوراهات الفخرية. كل ما كان موجودا عند الدخول إلى المكتب على يدك اليمين صور معلقة على الحائط لمن التقاهم من رموز زمانه وأهل عصره وقادة الدنيا فى الوقت الذى عاشه وعاصر أحداثه وكتب عنه.
من الصعب إحصاء أصحاب الصور المعلقة سواء فى حروب زار مواقعها وكتب عنها. أو صوره مع من صنعوا الأحداث ابتداء من الخومينى فى باريس أو قم، وانتهاء بتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وأم كلثوم. وطبعا أكثر من صورة مع جمال عبد الناصر فى أكثر من مكان. سواء فى بيت عبد الناصر أو بيت هيكل أو مكتبيهما.
يومها قال لى إننى آليت على نفسى ألا أقبل أوسمة ولا نياشين ولا أنواطا. لا أنا سعيت لها. وموقفى المعلن من رفض مثل هذه التكريمات جعل من يمنحونها يفكرون أكثر من مرة قبل قرار منحها لى. وعندما تحول القرار من تفكير إلى تنفيذ، شكرت واعتذرت بلباقة عن عدم قبول أى تكريم. وهذا مبدأ أخذت نفسى به منذ يومى الأول. وأرجو أن أحافظ عليه حتى يومى الأخير.
الرئيس عبد الفتاح السيسى أجرى اتصالا تليفونيا برفيقة عمره ودربه وشريكة مشواره هدايت تيمور التى أصبحت أكبر من كل الألقاب ـ عزاها فى المصاب الأليم الذى حل بمصر والوطن العربى والأمة الإسلامية جميعاً. ولم يحل بأسرته الصغيرة. ولم يكتف الرئيس السيسى بالبيان الرسمى الذى تصدره الرئاسة فى حالة وفاة رمز من رموز الأمة. لكنه حرص على أن يعبر بنفسه وبشخصه عن مشاعره إزاء هذا المصاب الأليم.
اللواء عباس كامل ـ لا أدرى بأى صفة أصفه ـ كان على اتصال دائم كل لحظة مع الدكتور أحمد هيكل ومع لميس الحديدى ومع كاتب هذه السطور من أجل تسهيل كل الأمور الخاصة بالجنازة والدفن. ودخل فى تفاصيل التفاصيل، وأجرى اتصالات بنفسه بكل أركان الدولة المصرية الراهنة التى لها علاقة بمسيرة الجنازة طالباً تقديم كل التسهيلات المطلوبة. ثم اتصل بنا الدكتور جلال السعيد محافظ القاهرة ليقرر المطلوب حتى تغيير مسار السيارات فى سيدنا الحسين ليمكن موكب سيارات الجنازة من المرور سريعا، سواء من بيت الأستاذ أو من سيدنا الحسين إلى مقابر الأسرة فى مصر الجديدة.
سألنى يحيى قلاش ونحن فى الحسين: هل سيدفن الأستاذ فى برقاش؟ وكان سؤال العديد ممن حضروا الصلاة عليه. وحقيقة الأمر أن الأستاذ فكر فى أن يقيم مقبرة فى برقاش، وجرت محاولات الحصول على تصريح. وهذه المحاولات تحولت لمناسبة للتشهير بالرجل كالعادة. ولم يذكر أحد يومها أن هيكل قدم مساحة من أرضه لمقابر سكان برقاش التى كانت قد ضاقت بها الأرض على سبيل الهدية. لكنه عندما فوجئ بتلكؤ المسئولين فى محافظة الجيزة. صرف النظر عن الفكرة نهائيا.
أما مقابر الأسرة فى مصر الجديدة فقد اختار لها اسما فريدا: دار العودة. ذهبت إليها معه ثلاث مرات. مرة عند دفن شقيقه الدكتور فوزى. وأخرى عند دفن والدته. وثالثة عند مواراة شقيقته خديجة الثرى. وهذه المقابر لم يحصل عليها هيكل فى زمن الستينيات. لأن بعض من ذهبوا معنا إلى هناك واكتشفوا وجود مقبرة لشعراوى جمعة تصوروا أنها مقابر من حكموا مصر فى الستينيات.
التاريخ المدون على إنشائها هو سنة 1978، ولمن لا يعرف فهى سنوات الخلاف مع رئيس مصر فى ذلك الوقت، وفى هذه السنة خضع هيكل لتحقيق مع المدعى العام الاشتراكى، نشره كاملا فى كتابه: وقائع تحقيق أمام المدعى الاشتراكى.
ضمن باقات الزهور وجدت باقة مقدمة من الرئيس الفلسطينى أبو مازن. ولم يمهلنى الوقت لرؤية باقى الأسماء. وفى ميدان سيدنا الحسين كانت هناك باقة من نقابة الصحفيين. وسمعت كلاما كثيرا عن محاولات تكريمه.
فى اليوم التالى لرحيله اتصل بى السفير أحمد عبد العزيز القطان. سفير المملكة العربية السعودية. أبلغنى أن الملك سلمان بن عبد العزيز يريد الاتصال بأسرة الأستاذ هيكل ليعزيهم فى الفقيد العزيز والغالى. رجعت للأسرة ورحبوا وأعطيت السفير تليفون هدايت تيمور. بعد حضور أحمد هيكل لبيت والده أبلغنى أنها لا ترد على تليفونها وعاودت الاتصال بالسفير وأمليته رقم تليفون أحمد هيكل لكى يتم الطلب عليه.
أبلغنى السفير بعد وقت قليل أن الاتصال قد تم.