كمال الهلباوى
حرب المذاهب .. حكاية 5 سنوات من الفتنة
لا تظن أيها القارئ، أن هذا العنوان للإثارة أو أنه من عندى، أخترعه لأننى لا أميل كثيرًا إلى التمذهب والتعصب. أنا أفهم المذاهب على أنها طرق للتعبد، وأداء العبادات والمعاملات بطريقة صحيحة، كما فهمها أصحاب المذهب. كل من فهمه للنصوص والأدلة. وبالتأكيد فإن المقلدين يحتاجون إلى تلك المذاهب. هذا العنوان هو عنوان داخلى لكتاب من أفضل الكتب والمراجع الحديثة فى موضوعه. الكتاب هو: إسلام بلا مذاهب. والمؤلف هو الأستاذ الدكتور الشيخ مصطفى الشكعة رحمه الله تعالى. يقول الرجل:
«كان لتعدد المذاهب واختلاف الفرق أثر سيئ خطير على الإسلام والمسلمين، فالإسلام الموسوم بالسماحة، الداعى إلى السلام قد تخضبت دماء أبنائه بدماء بعض، نتيجة للخلافات المذهبية وضيق الأفق الذى حل بهؤلاء المتعصبين لمذاهبهم، وانتهى الأمر فى كثير من الأحيان- ولفترات طويلة من الزمان- إلى القتال الدامى الذى ترك رواسب كثيرة فى نفوس المسلمين من أبناء الطوائف المختلفة.
وقد ابتدأت دماء المسلمين تسيل أول الأمر على يد الخوارج الذين دعوا أنفسهم بالشراة، ورأوا أن الإسلام لا يتم إلا بالجهاد، وقتل باقى المسلمين ممن لا يعتنقون مذهبهم. ومن بعد الخوارج قام القرامطة الذين أقضوا مضجع العالم الإسلامى وحل شرهم فى كل بلد، واسألوا الدماء فى كل صعيد ووادٍ، وانتشروا فى العراق والشام والحجاز يوقعون الفزع ويبثون الرعب فى قلوب المسلمين مع قتل ونهب وسلب، حتى إنهم كثيرًا ما هاجموا حجاج بيت الله وقتلوهم وطموا بهم بئر زمزم ونهبوا ستائر الكعبة وهدموها ونقلوا الحجر السود إلى عاصمتهم هجر.
هذه الآلاف من أرواح المسلمين التى أزهقت بسيوف الخوارج والقرامطة لم يكن سبب إزهاقها إلا الأفق الضيق والتعصب الأعمى، والإسلام من كل ذلك براء.
ومع عجلة الزمان أخذ الخطر ينتشر من مكامنه وأخذ الصراع بين المذاهب المختلفة - بخاصة الشيعة والسُنة - يحتل مكانًا ظاهرًا فى حياة المسلمين، والغلبة للقوى صاحب السلطان من الطرفين، وهكذا نجد الشيعة حينًا معتدين غالبين، ثم ينتقل الأمر إلى السُنة فنجدهم أيضا معتدين غالبين. ومن الغريب أن الأمر لم يكن مقصورًا على معسكرى الشيعة والسُنة، بل كثيرًا ما وقع الخلاف بين أحزاب السُنة أنفسهم».
ويواصل الدكتور الشكعة حديثه فيقول «على أننا نلاحظ أن أكثر الفرق الإسلامية خسارة أرواح وأنفس هم الشيعة أنفسهم، وذلك لعدة أسباب، أهمها عطف الناس عليهم أول الأمر باعتبارهم أهل البيت الكريم، وشدة تعلقهم بهم، الأمر الذى كان يرتعد منه الخلفاء الأمويون والعباسيون فرقًا، فكانوا يشددون عليهم النكير، ويوقعون بهم الأذى، ما كان إلى إيقاع الأذى بهم من سبيل.
وسبب آخر هو التفاف بعض الغلاة حولهم، أولئك الذين كانوا يؤلهونهم حينًا أو يرفعونهم إلى مراتب النبوة حينًا آخر، الأمر الذى كان يجعل جمهور المسلمين ينفر منهم ويوقع الأذى بهم، فالكيسانية والسبئية والإسماعيلية، كل أولئك كانوا يثيرون المسلمين بما ينادون به من مبادئ هى أبعد ما تكون عن الإسلام.
والأمر الذى لا يقل عن السببين السالفين من حيث الأهمية، هو ذلك التيار الشعوبى الذى كان يستتر خلف التشيع، فالذى لا شك فيه أن الشيعة - وأعنى منهم المعتدلون - قوم طيبون يحبون الرسول وآل بيته، ولكن جماعة الشعوبيين ممن كانوا يظهرون التحمس للإسلام ويبطنون له الشر والضر، قد استتروا وراء أنصار آل البيت، مما كان سببًا فى وقوع الأذى على آل البيت أنفسهم.
وإذا ما تتبعنا المصادمات والخلافات التى وقعت بين الشيعة والسُنة، سواء أكان المعتدون هؤلاء أم أولئك، فإننا سنجد صفحات دامية سوداء، لوثت أفق الحياة الإسلامية لبضعة قرون من الزمان.
فرجل فاضل مثل أبى عبدالرحمن النسائى - وكان متشيعًا - يسأل فى دمشق عن معاوية وفضائله، فيرد ردَّا به مساس بالخليفة الأموى، فإذا بالناس يدفعونه ويخرجونه من المسجد ويدوسونه حتى يموت بسبب ذلك.
وينشب فى مصر فى يوم عاشوراء سنة 350 هجرية، خلاف بين الجنود السُنة من أتراك وسودانيين من جانب والشيعة من جانب آخر، ويسير الجنود فى الشوارع يسألون من يجدونه فى الطريق: من خالك ! فإذا لم يقل معاوية، يلقى من الضرب والأذى ما لا طاقة له به.
وتقع فتن دامية أعوام 408، 444، 445، 449 هجرية، ويجرى قتال رهيب بين كل من الشيعة والسُنة وتسيل الدماء - دماء المسلمين - من الطرفين أنهارًا، وتخرج نساء الشيعة ناشرات شعورهن حزنًا على من ماتوا من أزواجهن ويلهبن عواطف العامة، فيشتد الأمر، وتشتعل الحرائق إلى أن تأتى على الأخضر واليابس، لغير ما سبب إلا أن فريقًا من المسلمين يخالف فريقًا آخر فى الرأى.
وفى مصر نقرأ فى أحداث سنة 353 هجرية أن أحد كبار الشيعة يحبس لغير سبب فيموت فى الحبس فيحمل إلى قبره، ولكن يأبى التعصب الكريه أن يترك جثة الرجل تمر فى أمان، بل يلتحم الجند بأصحاب الشيخ وتقع بين الفريقين معارك دامية». انتهى كلام الدكتور الشكعة.
أقول: هذا هو بعينه التعصب الأعمى، وهذه هى نتيجته السوداء؛ الدماء. سواء كان التعصب للمذهب الدينى أو التوجه السياسى. هذا الفساد يبدأ أولًا فى العقل نتيجة سوء الفهم، ولكنه ينتشر فى الإنسان، حتى يصل إلى حد استحلال الدماء، وكأن من يدافع عن المذهب يدافع عن الإسلام. وهذا غير صحيح، لأن الإسلام كان قبل المذاهب، ويبقى بعد المذاهب إذا ذهبت أو لم توجد. وللحديث صلة.
والله الموفق