الصباح
وائل لطفى
الحقد على هيكل
>>علم نفسه بنفسه ولم يكف عن العمل دقيقة واحدة فى حياته
>>علاقته بالسلطة دائمًا كانت ندية سواء من موقع الصديق أو من موقع العدو والناقد
>>أحد مدعى المعارضة كتب يهاجمه لأنه قال إن السياسيين هم مصادر الأخبار وصُناعها
>>حب الحياة والدأب على العمل.. والكبرياء فى مواجهة السلطة كلها دروس تعلمها آلاف الصحفيين من هيكل

رحل الأستاذ هيكل لكنه لم يغب.. ولا أظن أن مثله يمكن أن يغيب.
وما بين الحزن على الرحيل وتأمل السيرة والمسيرة يبقى السؤال.. ما الذى تبقى من هيكل الإنسان والصحفى؟
فى رحلة هيكل التى طالما تعلمت منها.. لا يمكن أن تفصل بين الإنسان والصحفى والسياسى.. فكلاهما واحد.
على المستوى الإنسانى لا يمكن إلا أن تنحنى احترامًا لمجموعة من القيم.. ذلك الدأب على العمل الذى بدأ منذ أول لحظة وحتى النهاية، ذلك الطموح المشروع نحو الأفضل.
الرغبة فى الاتقان التى ظللت رحلته العملية منذ بدايتها وحتى نهايتها.
التفكير فى المستقبل.. تلك القدرة المدهشة على التواصل مع البشر بدءًا من الرؤساء والملوك، وحتى أصغر صحفى شاب يظن الأستاذ أن لديه جديدًا.. حب الحياة والتمتع بها.. أناقة الأسلوب والملبس والفكر أيضًا.
تذوق الفنون جميعها من الموسيقى التى كان يحضر مهرجانًا سنويًا لها فى النمسا.. إلى الفن التشكيلى الذى كان من كبار متذوقيه ومقتنى لوحاته.
تلك القدرة الأسطورية على التحكم فى الوقت وضبط المواعيد وإنجاز المطلوب فى موعده بالثانية، والتى جمعت بينه وبين عظماء آخرين مثل نجيب محفوظ، ومحمد عبدالوهاب.. عدم الاستسلام لأهواء الحياة ولتيارها الجارف وقدرته على قيادة المركب بحيث ترسو حيث يريد هو.. لا حيث تلقى بها أمواج الحياة.
دروس كثيرة جدًا يمكن أن تتعلمها من هيكل بدلًا من أن تكون جاهلًا داعيًا تنفث عن أحقادك تجاه رجل لم تستطع أن تفهمه، فضلًا عن أن تحاول أن تكون مثله.
>>>
إذا خلع الحاقدون على الأستاذ منظار الحقد وارتدوا منظار الإنسانية وقيّموا رحلة الرجل السياسية والصحفية فسيجدوا أننا إزاء رجل كبير.. هل هيكل صحفى صنعه القرب من السلطة؟!
فى الحقيقة لا.. هذا رجل لم يتخذ من السلطة سوى موقف الند.. إما صديقًا.. أو عدوًا.. أو ناقدًا.. أو ناصحًا، وهو فى كل الأحوال بند يستند إلى موهبة كبيرة وعلى قدرة هائلة على التأثير صنعتها موهبته وتجربته.
تأمل علاقته برؤساء مصر، ستجد أنه كان صديقًا لعبدالناصر.. وأنه تعرف عليه وهو رئيس تحرير لأكبر مجلة فى مصر «آخر ساعة».. وأنه ظل مستشارًا وصديقًا وشريكًا وصائغًا لأحلام عبدالناصر من فلسفة الثورة إلى الميثاق.. ومن الخطابات التاريخية إلى بيان مارس «لا يعنينى هنا رضاءك عن مشروع عبدالناصر، ولكن تأمل علاقة الصحفى بالرئيس».. وقد ظل هيكل وفيًا لعبدالناصر منذ اللحظة الأولى وحتى اللحظة الأخيرة.
علاقته بالسادات لم تختلف من حيث الندية.. سانده فى البداية.. انحاز له فى صراعه ضد رجال عبدالناصر الذين كان يقف ضدهم فى حياة ناصر نفسه.. وكتب التوجيه الاستراتيجى لحرب أكتوبر.. ثم اختلف مع السادات حول مستقبل مصر، أو حول ما أسماه هو «تفريط السياسة فيما حققه السلاح».. خرج من الأهرام.. ورفض أن يكون مستشارًا صحفيًا للرئيس.. فضل أن يغامر، وأن يكتب كتبه.. كان إذن مغامرًا.. وقويًا وندًا من البداية للنهاية.
>> مع مبارك فضل الابتعاد وربما مارس نوعًا من التعالى يليق به كرجل دولة شارك عبدالناصر والسادات.. كان يرى مبارك مُحدث سياسة.. التزم نوعًا من الصمت النسبى.. أطلق صافرة إنذار مبكرة فى رسالة غاضبة وجهها للجمعية العمومية لنقابة الصحفيين 1995 حين تحدث عن سلطة شاخت فى مواقعها.
وفى 2002.. أطلق صافرة الإنذار الكبرى حين تحدث فى محاضرة بالجامعة الأمريكية عن خطر التوريث متأسيًا ببيت شعرى يحفظه لوليم شكسبير «إذا لم أقلها الآن فمتى.. وإذا لم أقلها أنا فمن»؟
وقد ضاعف من أثر المحاضرة إذاعتها على الهواء مباشرة على قناة دريم، وإعادتها عدة مرات.. وكان من آثار إذاعتها فتح ملف علاقة مالك القناة د. أحمد بهجت بالبنوك وتهديده بصورة مباشرة.. وهو ما استدعى إيقاف إذاعة حلقات هيكل على دريم عقب زيارة من مالك القناة للأستاذ هيكل روى له فيها تفاصيل ما تعرض له.
>> وحتى اللحظة الأخيرة كان هيكل يقف من الرئيس السيسى موقف الناصح صاحب الملاحظات، والذى لا يتردد فى إعلان ملاحظاته للناس جميعًا.. حتى وإن كان يتمنى النجاح والتوفيق للسيسى.
علاقة هيكل مع السلطة إذن عنوانها الكبرياء والندية، وعلاقته مع نفسه عنوانها الدأب والاتقان.
>> لم أشأ أن أشغل القارئ فى بداية المقال.. بكتابات حاقدة طالعتها وسط طوفان من كتابات محبى الرجل وعارفى قدره.. وتلاميذه المباشرين وغير المباشرين وهم بالآلاف أو قل بعشرات الآلاف.. وأستطيع أن أصنف كتابات الشامتين فى وفاة الأستاذ فأجدهم ثلاث فئات أولها.. أعضاء جماعة الإخوان، وهؤلاء يتميزون بعمى البصر والبصيرة.. وحقدهم على هيكل لا يختلف عن حقده وعدائهم لأى رمز مصرى كبير.. من نجيب محفوظ لمجدى يعقوب.. ومن أم كلثوم لمحمد عبدالوهاب وهم مساكين جملة وتفصيلًا.
أم الفئة الثانية فهى كتابات ترددت فى وسائل إعلام مملوكة لدولة خليجية كبيرة أوجعتها كثيرًا كتابات وآراء هيكل حول سياستها ومصيرها.. رغم أن ما يقوله هو كبد الحقيقة.
أما الفئة الثالثة فهى طائفة من مدعى اليسار والثورية التى تحسب نفسها على المهنة والثورة.. فى حين أن كليهما منها براء.. وقد لفت نظرى ما كتبه أحدهم يقول فيه إنه ذهب للقاء الأستاذ هيكل مرة واحدة، وأنه صدم حين قال له الأستاذ إن الرؤساء والسياسيين هم صُناع الأخبار!! وأنه لم يعد لمقابلته بعدها احتجاجًا على ما قاله له الأستاذ! «ضع من علامات التعجب ما تشاء».
سلامًا على روح الأستاذ.. وليهنأ الجاهلون بجهلهم.. أما نحن.. فمازال لدينا الكثير لنتعلمه من هيكل.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف