حمدى الكنيسى
كلام من لهب ! لعل الله يعوضنا خيراً
خلال ساعات معدودات تعرضنا لصدمتين متلاحقتين، حيث هزنا نبأ رحيل عميد الدبلوماسية المصرية والدولية والشخصية العالمية «الدكتور بطرس بطرس غالي»، وماكدنا نلتقط أنفاسنا حتي صدمنا نبأ رحيل عملاق الصحافة والفكر والسياسة «الأستاذ» محمد حسنين هيكل.
وقد يقول قائل: كيف تصف رحيل العملاقين الكبيرين بأنه كان صادما ومفاجئا بالرغم من أن أخبار المرض الأخير لكل منهما كانت ملء السمع والبصر، وأكدت أنه قد آن أوان رحيلهما؟ وأقول أنا لهذا المتسائل: إنه ياسيدي «شأن العظماء» دائما.. مهما قالت المقدمات الصحية الواضحة أنهم في النزع الأخير، يفاجئنا رحيلهم ويهزنا النبأ من الأعماق وكأننا اكتشفنا فجأة ما لم يكن نعرفه عن شخصياتهم وعظيم عطائهم، فيحاصرنا الاحساس بالفراغ والقلق.
وقد تسابقت الأقلام والميكروفونات والشاشات إلي الحديث عن العملاقين اللذين «تجاورا» في قيمة وعمق العطاء، و«تجاورا» في تجاوز التسعين من العمر، ثم «تجاورا» في ساعات الرحيل، وبالفعل ظهرت وقائع وأخبار وحقائق وأسرار في حياة وشخصية وعمل الدكتور بطرس بطرس غالي، وفي حياة وشخصية ومواقف الأستاذ هيكل، مما زادنا اعجابا واعتزازا بهما وبأننا ننتسب إلي الدولة التي خرجا منها. وحيث إننا أمام لحظات الرحيل لا نملك إلا أن ندعو الله بأن يعوضنا فيهما خيرا، فإنني أجدني أتساءل: هل حقا يمكن أن يعوضنا الله في «الدكتور» و«الأستاذ»؟! هل يمكن أن نري في القريب من يرتفع إلي مستوي عميد الدبلوماسية المصرية والدولية ويشغل - مثلا - موقع أمين عام الأمم المتحدة، مثل الدكتور بطرس؟! هل يمكن أن نري في القريب من يرتفع إلي مستوي القامة الصحفية والفكرية والسياسية الدولية ويشهد لها العالم كما شهد للأستاذ هيكل؟!
صحيح أن مصر ولادة، وهي بعراقتها وأصالتها يمكن أن تنجب لنا من يعوضنا في العملاقين أو أحدهما، وإن كان الواقع يقول ليس بالسرعة التي نتمناها يحدث ذلك فالفراغ الذي تركه «بطرس» و«هيكل» يصعب أن يملأه أحد إلا بعد وقت طويل طويل، ومع ذلك فإنني أقول لمن يجد في نفسه استعدادا شخصيا وفكريا ليضاهي أحد العملاقين ويرتفع أو حتي يقترب من مستوي قامته الوطنية والعربية والدولية، عليه أن يدرس جيدا أسلوب حياة كل منهما وهو متشابه إلي حد كبير، فقد أخذ «هيكل» نفسه بنظام بالغ الدقة والصرامة لا يحيد عنه سواء في موعد وساعات نومه، أو موعد الاستيقاظ، وموعد ممارسة الرياضة اليومية الملائمة، وموعد القراءة، وموعد الكتابة، وموعد الاتصالات وحجمها والمتوقع منها كإضافة ثقافية أو إنسانية، ويكفي أن نتذكر مثلا ما كان «الأستاذ» يفعله بعد أن ترك العمل اليومي في الأهرام وصار متفرغا حيث لم يركن إلي الراحة والاسترخاء والاستمتاع بمباهج الحياة وهي عنده متاحة، بل علي العكس لم يتخل عن نظام حياته فكان يتحرك من شقته إلي مكتبه المقابل لها في نفس المبني وقد ارتدي البذلة الكاملة والكرافتة ليبدأ علي الفور مراحل برنامجه اليومي من القراءة والكتابة واللقاءات!
وكما قلت لا يختلف كثيرا أسلوب ومنهج الدكتور بطرس غالي عن ذلك الأسلوب والمنهج «الهيكلي».. وأعود فأقول - أو أناشد - من لديهم الفكر والرؤية والحماس والانضباط الدقيق بأن يسترشدوا بأسلوب ومنهج العملاقين الكبيرين الراحلين لعل الله يعوضنا فيهما خيرا أو بعض خير.. لنقل إن «مصر ولادة».
برحيلهما قال العملاقان الكثير والخطير!!
في الجلسة التي خصصتها الأمم المتحدة لتأبين الدكتور بطرس بطرس غالي، قال السكرتير العام «بان كي مون» إن الراحل كان ذا شخصية مستقلة.. وقد دفع ثمن ذلك تقريبا، والمعني - يا حضرات - أن الدكتور بطرس بطرس غالي احترم موقعه كأمين عام المنظمة الدولية الكبري، ورفض الانصياع إلي إيحاءات وإملاءات أمريكا بأن تكون تقاريره ومواقفه وفق مشيئتها، ومثال ذلك ما ذكره عن جرائم إسرائيل الوحشية ضد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وكانت النتيجة هي أن أمريكا كانت الدولة الوحيدة التي استخدمت الفيتو لمنع التجديد للدكتور كأمين عام مثل من سبقوه!
في لحظات رحيله دقت كلمات الأستاذ هيكل الأخيرة أجراس الخطر حيث كان آخر ما قاله وما أذيع في نفس يوم جنازته أن مصر يجب أن تعمل كلها للخروج من عنق «الزجاجة» التي تحاول أمريكا خنقنا داخلها، حيث إن واشنطن لن تتراجع عن مخططها الذي أجهضته أو جمدته مصر بثورتها العظيمة وجيشها العظيم، وهي تتعامل الآن مع الرئيس السيسي كأمر واقع فقط؟! ووراء «الأكمة» ماوراءها، ومن ثم لا بديل عن قيام الرئيس «بالتغيير» وليس مجرد «التسيير» لتنطلق كل قوي وأطياف الشعب في معركة البناء والتنمية والتقدم.. لأنها معركة المصير!!