المساء
محمد جبريل
ع البحري- بحري
عندما أكون خارج مصر. فإن الحنين يدفعني إلي استحضار الملامح المألوفة. واللهجة. إلي الحياة فيها ومعها. تذكر التفصيلات الصغيرة. والتافهة. ضغطة الزر في اللهجات المصرية. وصوت الناي. وتلاوة محمد رفعت وأبو العينين شعيشع. وغناء أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وبدارة وعزت عوض الله. ورقصات سيد حلال عليه. ولوحات محمود سعيد. وروايات نجيب محفوظ. وقراءات فاروق شوشة في الإذاعة. والأفلام المصرية في التليفزيون وثمة الإسكندرية إنها - عندي - ليست مطلقة. بل تتحد في ذكريات شخصية وأماكن وبشر. بالتحديد حي بحري. ناسه ومساجده وميادينه وأسواقه وشوارعه وأزقته وتميز الحياة فيه. الإسكندرية في داخلي أينما ذهبت. وإن كنت أنتمي - بمشاعري وذكرياتي - إلي بحري. إلي تلك المنطقة التي تبدأ من ميدان المنشية. وتنتهي في سراي رأس التين. أو العكس. أشرت في "مد الموج" إلي النسائم المحملة بروائح الملح واليود والأعشاب والطحالب. تلامس أنفي في مكان ما. في لحظة ما. علي شاطئ الأطلسي. خور فكان. شاطئ الكورنيش بمطرح. فوق تلال الجزائر. حي البورسعيد التونسي.. أستعيد الرائحة نفسها. علي شاطئ الكورنيش. في "المينا الشرقية". أو في الأنفوشي. يغلبني الشوق في ملء رئتي من هواء بحري. تصنعه تيارات من البحر الذي يحيط بمعظم جوانبه.
سافرت إلي مدن كثيرة داخل مصر وخارجها. لكن وجداني لم يترك الإسكندرية - وبحري بخاصة - في أي وقت. أنا دائم الوجود فيه بالحنين والشوق واستعادة الذكريات والمقارنة والكتابة عن الوقائع والأماكن والشخصيات.
جغرافيا. قد أكون بعيدا عن بحري بمئات. أو آلاف. الكيلومترات. لكنني أعيش في بحري. أسير في الشوارع والحواري والأزقة. أؤدي الصلوات في المساجد. أذاكر في صحن أبي العباس. أشاهد الموالد. أزور الأضرحة والمقامات. وأقرأ الفاتحة. أندس وسط حلقات الذكر. أخترق زحام شارع الميدان. أقف علي شاطئ البحر. أتابع عمليات صيد السنارة والطراحة والجرافة. أتردد علي ورش القزق. أتابع تحليق الطائرات الورقية الملونة. أمد النظر إلي نهاية الأفق.
مع كثرة ما استمعت إلي صياح الديكة في مواضع من العالم. فإن ترامي الصوت ينقلني إلي بحري. بالتحديد إلي حجرة نومي في الشقة المطلة علي ثلاثة شوارع. يؤنسني صياح الديكة. وتسبيحات ما قبل صلاة الفجر. والأهازيج التي يعلو بها صوت ألفته. وإن لم أعرف صاحبه!
رغم انقضاء عشرات السنين علي رحيلي من بحري. فإني أصحو - في الكثير من الأيام - علي جلبة الطريق في ميدان "الخمس فوانيس". ورائحة البحر. وأهازيج السحر. وجلوات الصوفية. وسوق العيد. ومواكب العرائس أسفل بيتنا. تختلط الذكريات والصور القديمة. أستغرق لحظات قبل أن أعود إلي الآني.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف