بعد أن هاجر الرسول إلى المدينة حدثت مواجهات بينه وبين اليهود والمشركين والمسيحيين وغيرهم، وفى المدينة نزل على الرسول باقى القرآن الكريم، وقد نزلت ضمن ما نزل سورة آل عمران، وقد حكى فيها الله عز وجل للنبى محمد بعضاً من سيرة سيدنا عيسى، وأعلمه أنه عز وجل أخبر عيسى بأنه متوفيه ورافعه، وذلك بقوله: «يا عيسى إنى متوفيك ورافعك إليّ ــ 55»، وهذه الآية تؤكد فقط أن الله عز وجل أخطره بما سيقع مستقبلا، والمسيح هنا لم يعرف حتى توقيت وقوع هذه النبوءة، ولا كيفية وقوعها، ولا حتى المكان الذى ستتم فيه مشيئة الله عز وجل، وقد اختلف المفسرون الأوائل فى قراءة كلمة متوفيك ورافعك، وجاء القراءات كالتالي:
القراءة الأولى: يمثلها الربيع بن أنس( ت 140هـ)، حيث قرأ متوفيك: منيمك، بمعنى أن الله عز وجل أنامه ثم رفعه وهو فى حالة النوم، على اعتبار أن النوم مثل الموت أو أخو الموت، مستشهدا بقوله تعالى: «هو الذى يتوفاكم بالليل ــــ الأنعام 60»، وقوله تعالى: «الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ـــ الزمر 42»، وقد وافق هذا الرأى بعض المفسرين فيما بعد، من المتصوفة ابن عجيبة (ت 1224 هـ) فى كتابه البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، ومن المذهب السنى فى العصر الحديث المرحوم الشنقيطى(ت 1393هـ) فى تفسيره «أضواء البيان في تفسير القرآن»، وأيضا الشيخ محمد متولى الشعراوى رحمة الله عليه(ت 1418 هـ) حيث اوضح فى خواطره: إنها بمعنى ينيمكم. فالنوم معنى من معاني التوفي.. لقد سمى الحق النوم موتا أيضاً.
القراءة الثانية: قدمها عبدالله بن عباس(ت 68 هـ)، ومحمد بن اسحاق(ت 151هـ)، ووهب بن منبه اليمانى(ت 114هـ)، ورأوا فيها كلمة متوفيك بمعنى: مميتك، «وهب» رأى انه: توفى ثلاث ساعات ثم رفعه، وابن إسحاق قال إنه: توفي سبع ساعات، ثم أحياه ورفعه، وقد وافق فيما بعد على هذه القراءة بعض المفسرين فى المذهب الأباضى، ومنهم: الهواري (ت القرن 3 هـ) فى كتابه»تفسير كتاب الله العزيز»، واطفيش (ت 1332 هـ) فى تفسير «هميان الزاد إلى دار المعاد».
القراءة الثالثة: قدمها كعب الأحبار(ت33هـ)، والحسن البصرى (ت 110 هـ)، وعبد الملك بن جريج(ت150هـ)،: متوفيك من الأرض، بمعنى تفيه إياه، مثل توفيت مالي من فلان أي قبضته واستوفيته، وأصحاب هذا الرأى يرون أن الله أخر موته إلى بعد نزوله إلى الأرض مرة أخرى، وساعتها سوف يميته ميتة طبيعية، وممن أخذوا بهذا الرأى نجد عند الشيعة الاثنى عشرية الفيض الكاشاني (ت 1090 هـ) فى «الصافي في تفسير كلام الله الوافي»، وعند الشيعة الزيدية الأعقم (ت القرن 9 هـ) فى كتابه» تفسير الأعقم»، كما وافقهم من اهل السنة المعاصرين المرحوم الشيخ سيد طنطاوى(ت 1431 هـ) فى كتابه «الوسيط في تفسير القرآن الكريم»، حيث قال: «إن التوفى فى اللغة معناه أخذ الشىء تاما وافيا. فمعنى { متوفيك } آخذك وافيا بروحك وجسدك، ومعنى { ورافعك إلى } ورافعك إلى محل كرامتي فى السماء فالعطف للتفسير. يقال: وفيت فلانا حقه أى أعطيته إياه وافيا فاستوفاه وتوفاه أى أخذه وافيا كاملا».
القراءة الرابعة: قدمها مطر الوراق(ت129هـ)، وابن إسحاق(ت 151هـ)، وعبدالله بن وهب(ت 197هـ)، وقد قرءوا متوفيك بمعنى: قابضك من الأرض، رافعك، قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت، وقد أخذ بهذا الرأى عمدة المفسرين الطبرى (ت 310 هـ) فى كتابه «جامع البيان في تفسير القرآن»، والقرطبى(ت 671 هـ) فى «الجامع لأحكام القرآن»، ونجده فى»تفسير الجلالين» لجلال الدين المحلي(ت864هـ) وجلال الدين السيوطي (ت911هـ)، ومن أهل السنة الفيروز آبادى(ت 817هـ) فى كتابه «تفسير القرآن»، والإمام الطبراني (ت 360 هـ) فى «التفسير الكبير»، ومن المتصوفة القشيري (ت 465 هـ) فى «لطائف الإشارات»، ومن السلفيين أبو بكر الجزائري (مـ1921ـ) فى «أيسر التفاسير»، حيث يرى انه عز وجل اخرجه فأخرجه من سقف المنزل أمام حوارييه، ومن الشيعة الإثنى عشرية الطبرسي (ت 548 هـ) فى «مجمع البيان في تفسير القرآن»، حيث رأى أنه عز وجل قبضه بمعنى رفعه إلى السماء بدون موت، ومن الشيعة الإثنى عشرية أيضا علي بن ابراهيم القمي (ت القرن 4 هـ) فى «تفسير القرآن»، حيث رفع عيسى من زاوية البيت وهم ينظرون إليه، وأيضا الطوسي (ت 460 هـ) فى «التبيان الجامع لعلوم القرآن»، رأى أن الله رفعه حيا بدون موت ولا نوم.