بينى وبين رحيل من أحبهم جسر يحنو على جراح القلب، يتجسد الجسر على هيئة حديث قدسى أحبه، حيث يبلغنا محمد صلى الله عليه وسلم أن الله سيأتى يوم القيامة بالموت وقد تجسد كائنا، ثم يقوم بذبحه أمام البشرية جمعاء. وطبعا يواسينى هذا الكلام المقدس الصادر عن الذات الإلهية والتى كان المصريون القدماء هم أول من كشفوا للجنس البشرى عن وجودها، وحاولوا تحديد هيئتها فلم يستطيعوا، فخدعهم الكهنة وجسدوها مرة فى قرص الشمس وأخرى فى كائنات ما إن تراها فتضحك إلى أن أراحتنا رسالات السماء فأعلنت أن الخالق الأكرم موجود فى كل الوجود وهو خالق كل الكائنات، فلا داعى لإرهاق أنفسنا بالبحث عن شكل محدد لها. وأضافت القواميس وضوحا شديدا لتفسير كلمة «الله»، فقيل «هو اسم علم على واجب الوجود»، أى أنه من المفترض أن يكون هو المبدأ لكل شىء.
بما أن ذبح الموت هو مجرد أمنية معلقة فى سقف الأمنيات يظل بالإمكان السيطرة على دوران الدم عكس اتجاهه بما يسبب اضطرابا كالزلزال الذى يخصنى وحدى حين أفتقد من أحبهم.
وفاجأنى هذا الأسبوع رحيل ثلاثة أعرفهم عن قرب، أنا الذى دربت نفسى عن الاقتراب بعمق مع جوهر من ألقاهم على الرغم من إتقانى لحفظ مسافة ابتعاد تغنينى عن آلام فراقهم حين يأتى الميعاد.
• فيلسوف السياسة الدولية
الرحيل الأول هو لفيلسوف السياسة الدولية الذى لا تغادر رأسه صورة الكوكب الأرضى، وما يخرج من سياسات تبدو متعارضة ويكشف هو عن جهل القائمين عليها لهوة المسافة بين ما يوجد فى أفكارهم وبين وأحقيتهم فى الانتماء إلى الإنسانية دون التسلح بالكراهية البغيضة الناتجة عن استسلامهم إلى هوس امتلاك السيادة على الغير. وهذا هو جوهر بطرس بطرس غالى الذى التقيته مرة واحدة ولمدة ثلاث ساعات أثناء عمله كأمين عام للأمم المتحدة، وكان أول ما بدر منى فى هذا اللقاء هو إبداء الدهشة لقبوله هذا المنصب وهو المفكر والمعلم لأجيال من السياسيين والمفكرين، أما سبب دهشتى فهو ما علمته عن معظم العاملين من موظفى هيئة الأمم المتحدة، حيث يحترف أغلبهم التآمر على بعضهم، فضلا عن قبول الجميع لسيادة الولايات المتحدة أو مندوبيها فى كل المنظمات الدولية على بقية خلق الله؛ وأنهم قد قاموا عمليا بتغيير اسم المنظمة الدولية إلى اسمها الفعلى المكتوب بالسلوك البشرى، فصار اسمها «هيئة الجثث المتحدة». ضحك بطرس بطرس غالى كثيرا على ما أقول، ثم قال لى «أدعوك إلى التعرف على ملامح عملى على بعث حياة مختلفة ولائقة بهذه المنظمة الدولية، وعندما تجلس مع مديرة مكتبى السفيرة فايزة أبوالنجا، سترى كيف نعمل على تأسيس واقع جديد للأمم المتحدة عبر ثلاث ورقات أساسية بذلت فيها جهدا كبيرا، أولاها ورقة عن السلام، والثانية ورقة عن الديمقراطية، والثالثة ورقة عن الشباب». لم أندهش لتغيير بطرس بطرس غالى لإدارة مكتبه، وجاء لهم بسيدة قوية الشخصية مصرية السمات، ابنة لمحافظة تعرف معنى المقاومة، فهى من عاشت طفولتها فى بورسعيد التى قاوم أكثر من عدوان، وهى بالثقافة وعمق الفهم تعرف كيف تضع الحدود، ولها من الهيبة ما يضع فاصلا من الاحترام الشديد, فتكون الكلمة المحددة هى الجسر الحامل للرسالة منها أو إليها.
وبعد أن درست أحوال الكون عبر منظمات الأمم المتحدة، وبعد مرور خمس سنوات من محاولات تقزيم العدوان النابع من القوة غير الأخلاقية سواء للولايات المتحدة أو لإسرائيل لم يكن هناك مفر من اصطدام بطرس بطرس غالى بالحيزبون مادلين أولبرايت التى خيرته بين أن يكون «كائنا أليفا» فى حديقة رغبات البيت الأبيض وأن يعود بالمنظمة الدولية إلى وضعها الذى شاءته لها إمبراطورية الشر المعاصرة «الولايات المتحدة» أى أن يظل الموظفون بها على حالهم القديم «هيئة جثث متحدة»، ولم يقبل بطرس بطرس غالى لنفسه وضع العروس الماريونيت فكان انتهاء عمله بالأمم المتحدة وعندما تولى من بعده كوفى عنان المنصب الدولى عرض على فايزة أبوالنجا أن تستمر فى موقعها، واعتذرت عن العمل كممثلة صامتة رغم صدور عشرات الكلمات، مثلما هو حال بقية موظفى المؤسسة الدولية وعادت إلى السلك السياسى المصرى لتشرف على أدق قضاياه، ألا وهى تحول النظرة إلى المعونات التى تقدمها الدول الكبرى خصوصا الولايات المتحدة، من مجرد منحة إلى جسر مشاركة فى مواجهة مشكلات محددة وضرورة فاعلية تلك المشاركة.
وتمر الأعوام وبطرس بطرس غالى لا يكف عن نزع أنياب التوحش عن المسيطرين على أوضاع الكون مستثمرا ثقافته الفرنسية، فتولى سكرتارية منظمة الفرانكوفونية، ومن بعدها شارك فى تأسيس مجلس حقوق الإنسان المصرى.
ولأن الزمن يأخذ كل عمر إلى نهاية، انتهت حياة بطرس بطرس غالى، وهو يحمل شرف الرفض فى أن يكون دمية ذات ملابس أنيقة تحركها أصابع الولايات المتحدة.
• سيد التفكير الاستراتيجى
وكأن الاتفاق على الهدف والاختلاف على وسائل الوصول إليه هو ما جمع سيد التفكير الاستراتيجى فى زماننا محمد حسنين هيكل وبطرس بطرس غالى، فموهبة أستاذنا هيكل فى التقاط المعاونين هى التى أخرجت بطرس بطرس غالى من قوقعة أستاذية الجامعة إلى رحاب تأسيس مجلة الاهرام الاقتصادى، ثم إلى رحاب تأسيس مجلة السياسة الدولية، تلك التى أبرزت قدراته على تلخيص مشكلات الكون ومحاولة العثور على طرق لمواجهتها.
وإذا كان محمد حسنين هيكل هو المستكشف فى آفاق جمال عبدالناصر قدرات زعيم يملك إرادة فاعلة، تجسدت فى الدليل الذى اختاره لثورة 23 يوليو، ألا وهو كتاب «فلسفة الثورة» الذى رصد أحوالنا فيما قبل ثورة يوليو من نخبة مثقفة كل منها يترصد الآخر ويرغب فى كتم أنفاسه السياسية، وفى تنافر بين إرادات متصارعة كل منها يدعى الحكمة، بينما كان الواقع يؤكد أننا أمام زحام من أقزام منفوخة تتربع على عرش أحزاب سياسية تحركها السفارة الإنجليزية، فضلا عن تيار متأسلم تعاطف مع ثورة يوليو إلا أنهم حاولوا الاستيلاء على الثورة بعد نجاحها؛ فكان الصدام الذى بلغ قمته بمحاولة اغتيال جمال عبدالناصر فى أكتوبر 1954 فشتت عبدالناصر جمعهم وفتتهم بين المنافى والسجون.
• أفكار ناصر
وإذا ما عدنا إلى ما سطره هيكل من أفكار عبدالناصر صاحب الإرادة والرؤية فى «فلسفة الثورة» سنجد بذور الدوائر الثلاث «العربية والإسلامية والأفريقية» وخطا إلى دوائره الثلاث بإرادة لم يستطع اللحاق بها زملاؤه من أعضاء مجلس قيادة الثورة، فتساقطوا تباعا، ولم يبق منهم سوى من أيدوه وهم بلا أفكار وهما أنور السادات وحسين الشافعى.
وجاء تجديد رؤى ثورة يوليو عبر «الميثاق الوطني» الذى جمع له عبدالناصر خلاصة المفكرين ورجال صناعة الرأى وكانت الصياغة الأخيرة من قلم هيكل الذى ينطبق عليه الوصف الصادق الذى اعترف به فى لحظة صفاء للكاتب الكبير عبدالله السناوى فقال «نصف ما كتبته هو أدب».
واصطدم الميثاق بالبيروقراطية السياسية التى حلت محل أحزاب ما قبل يوليو، فترهلت كل المنظمات السياسية التى أطلقتها ثورة يوليو بدءا من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومى إلى الاتحاد الاشتراكى إلى التنظيم الطليعى، ووقعت هزيمة 1967 ليقول المؤرخ العسكرى الذى استدعاه هيكل ليكون رئيسا لوحدة استراتيجية بمركز الأهرام للدراسات، قال الرجل «بين عبور القوات المسلحة إلى سيناء فى الخامس عشر من مايو 1967 وبين أمر الانسحاب الصادر لها لتعود إلى شرق القناة، بين التاريخين انكشفت عيوب مجتمع بأكمله».
وجاء عبدالمنعم رياض ليعاون الفريق محمد فوزى فى إعادة بناء قوات مسلحة أذاقت إسرائيل ويلا بغير حد سواء فى حرب الاستنزاف، وصولا إلى حرب أكتوبر التى كتب أمر القتال فيها محمد حسنين هيكل، ولم يغب عن باله أبدا أن مصر دون محيطها العربى تصبح مشكلة ، وبانتمائها العربى هى قوة قادرة. ولذلك لم يشأ أن يستمر فى موقع المشارك بالرأى مع السادات، فعندما جلس الأستاذ هيكل مع هنرى كيسنجر فى صالون جناحه بالهلتون القاهرة، تحدث هيكل عن مصر والمحيط العربى، فقال كيسنجر «إن كل دولة تتحدث عن نفسها» فطن هيكل إلى لعبة العزل التى أطلقتها الولايات المتحدة على مصر بعد حرب أكتوبر، وحاول السادات أن يثنى هيكل عن الخروج من دائرته، فرفض وقبل الخروج من صرح الأهرام الذى أسسه بجهده الإدارى والثقافى المرموق؛ إلى أن اعتقله السادات فى الخامس من سبتمبر 1981وأقسم غير حانث أن منصور حسن وزير الدولة لرئاسة الجمهورية ذهب إلى السادات يوم الثالث من سبتمبر ليثنيه عن قرارات الاعتقال العشوائية التى ضمت ألفاً وخمسمائة مفكر وسياسى، فخيره السادات بين قبول الواقع كما قرره هو أو الانتقال إلى منصب وكيل مجلس الشعب، فرفض الأمرين معا وقرر الاستقالة، والتى حاولت بحكم الصداقة بيننا أن أثنيه عنها، لأن معارضة السادات بهذا الشكل العلنى قد تدفعه إلى اعتقال منصور حسن، فقال الرجل كلمته التى لا أنساها «ما هو مقدر سأراه ولن أخون ضميرى».
• رجال ابتعدت عنهم
ويأتى لى ابنى شريف عامر سائلا إياى «لماذا لاتتواصل مع من تحبه وتحترم أفكاره أستاذنا هيكل الذى قدمت لى كتبه كهدايا منك فى كل مناسبة طيبة؟» أجبت شريف «هناك ثلاثة رجال زمانى حرصت على أن أهضم أفكارهم، وأصررت على الابتعاد عنهم، أولهم نجيب محفوظ وثانيهم محمد حسنين هيكل وثالثهم يوسف إدريس، فكل منهم كوكب شديد الجاذبية وأنا لا أرضى لنفسى الدوران كنجم حائر بين ثلاثة كواكب فضلا عن أنى ابن لأفكار أحمد بهاء الدين وفتحى غانم وصلاح عبدالصبور، وكل منهم علمنى ألا أدور فى فلك أى كوكب مهما كان بريقه أو ضوؤه».
وظل ما قلته لشريف حقيقة مؤكدة، وعندما نشأت صداقة بينه وبين أستاذنا هيكل كان حريصا على التفاعل دون التباهى، صادق الود مستقبلا لكرم الأستاذ بالصداقة التى استمرت خمس سنوات لم تصبها أى جفوة ، لأنه المستوعب منذ مراهقته كل حرف أضاء به هيكل ذاكرة هذا الوطن.
• الأديب المتصوف
وآه من رحيل علاء الديب هذا الصديق النزيه المتصوف الكاشف لأبعاد سمو الإنسان وضعفه فى آن واحد.
علاء زميلى فى نفس صالة تحرير «صباح الخير» التى أملؤها ضجيجا ويملؤها صفاء نفس ورؤية ثاقبة.
جاء تعيين علاء الديب فى صباح الخير بعد تعيينى بعام كامل، رغم أنه يكبرنى بعدة شهور، وكنت الحريص على رؤية نفسيته المثقفة أثناء كتاباته للتحقيقات الصحفية، فريف مصر كان موجودا مع سدها العالى فى صباح الخير عبر تحقيقاتنا عن كل أنحاء مصر المحروسة، ومازلت أذكر عنوان تحقيق صحفى لعلاء الديب بعنوان «أحزان أغسطس والانتصار» عن دودة القطن التى حاولت التهام أقطان إحدى محافظات مصر، لكن استطاع جهاز وزارة الزراعة مع الأهالى خوض رحلة انتصار على دودة القطن.
وصادف ذلك الوقت قرار أستاذى صلاح عبدالصبور الانتقال من مؤسسة روزاليوسف إلى الهيئة العامة للكتاب، وهكذا خلت مجلة صباح الخير من باب عصير الكتب التى كان يقدم فيها علاء الديب خلاصة الثقافة العالمية بما تضمه من كتاب كبار. وكان باب «عصير الكتب» هو ابن أفكار صلاح عبدالصبور كنوع من ضرورة استمرار ما بدأه أحمد بهاء الدين عندما كان يكتب كل شهر «زيارة إلى مكتبة فلان»، فزار أحمد بهاء الدين مكتبات توفيق الحكيم والعقاد وطه حسين، فجاءت فكرة «عصير الكتب»، وعندما غادرنا صلاح عبدالصبور إلى الهيئة العامة للكتاب شاء فتحى غانم المؤمن بأن حق الأجيال فى التعريف بمواهبها المنتشرة على الخريطة، لذلك كان من السهل عليه أن يرى أمانة التقييم الراقى عند علاء الديب، فجاء ميلاد عصير الكتب على يدى علاء، ولنلمس عبر الأعوام قدرات ومواهب أجيال تدين لعلاء الديب بدين الكشف عنها.
وطبعا كانت هزيمة 1967 ذات أثر شديد الوطأة على جيلنا.. وحاول علاء أن يرصد رحلة بناء العجز النفسى عن التطور. ولما جاء انتصار أكتوبر 1973 فرحنا به وخفنا عليه، لنفاجأ بالسادات وهو يفصل العشرات من الصحفيين، وكان منهم علاء الديب لكن روزاليوسف لم تستلم لقرار السادات، وأصرت على الاحتفاظ بأبنائها دون أن يكتبوا مقالاتهم موقعة بأسمائهم ولذلك استمر ضوء علاء يشع على صفحاتها.
ولكن أثار تجربة الفصل التعسفى أثرت بشكل ما على علاء، صحيح أن وهجه لم يخفت، وصحيح أيضا أنه بدا كمتصوف ترك وليمة يتزاحم عليها ضباع ووحوش ومضى يكتب رواياته محتفظا بمسافة بينه وبين أى سلطة تتحكم فى الكلمات.
وطبعا عاش فى عزلته ليرى بضوء بصيرته الخطايا والحسنات، يرجو المغفرة والإفاقة لمن أعماه الاقتراب من عرش السلطان حتى لو كان هذا العرش مصنوعا من جماجم البسطاء.
وعندما تراكمت عليه الرؤى ليرى انهيار سلم القيم، كان يصرخ بآهة تتبعها زفرة تتحول إلى عجز عن التنفس لتعلن انسداد شرايين القلب، وتجرى له جراحة غير موقفة لتغيير شرايين القلب، وليظل تحت شجرة فى حديقة بيته يستقبل المحبين. ولكن لكل ضوء غروب، هكذا شاء علاء الديب أن يغرب من فرط حساسيته لآلام من مشاهد من يتكالبون على قصعة الوطن، كجوعى لا يعرفون أنهم يأكلون مستقبل أبنائهم. ولتبقى منه رواياته شاهدة على نقاء أعماق قررت الإضافة وبعدها آثرت الانسحاب.•