نصف الدنيا
نوال مصطفى
شقة السيدة
اختار «سيف» الإقامة مع أمه «شهد» في بيت العائلة بالسيدة زينب، واختارت «سارة» البقاء مع أبيها في فيلته بالشيخ زايد.

كانت شقة السيدة زينب مقفولةً منذ وفاة أم «شهد» قبل عدة سنوات، وكانت الأتربة تردم الأثاث والسجاجيد والمفروشات.. أمضت «شهد» أسبوعًا مع خادمتها «نادية» و»أيمن» زوج «نادية» في تنظيف الشقة.. أتت بالنقاشين ليطلوا الجدران بطبقةٍ نظيفةٍ من طلاء الزيت.

في استطاعة المرأة الحقيقية أن تحول أي مكان إلى جنة.. هذه حقيقة، فاللمسة الأنثوية تبعث الحياة حتى في الجماد أو الحجر، وهذا ما حدث لشقة السيدة زينب ذات الأسقف العالية والحجرات المتسعة والمساحات الفضفاضة.. حوّلتها شهد إلى تحفةٍ فنيةٍ تريح النفس، وملتقى لأصدقاء يعشقون لغةً واحدةً هي لغة الثقافة، ويجمعهم حب الفن والأدب.. الشعر والجمال.

وجدت «ليلى» نفسها للمرة الأولى في هذا المكان، فهنا أحست أنها منتميةٌ، وتَبَدَّد إحساسها المرير بالغربة سواءً في مصر أو موطنها الأصلي بريطانيا.

شيء ما في المكان أعطاها ما كانت تبحث عنه طوال عمرها.. السكينة والقبض على الجذور.. أن تشعر بأنها تنتمي إلى مكانٍ ما، وأن لديها مجموعة من الأصدقاء والصديقات، وأنها تشعر بالدفء الإنساني الحقيقي بين هؤلاء.

أما «سيف» فقد ارتمى في أحضان الأصالة.. أحب المكان بنفحاته ورائحة الغورية والتاريخ الذي يغمر شوارع السيدة زينب.. بهرته طقوس الحي الشعبي بأنواره، وفوانيس رمضان التي تمتد بسلكٍ طويلٍ.. مضاءة متلألئة فيما يشبه الفرح.

أحس «سيف» بمشاعر جديدة.. طبيعية.. طازجة.. عشق بيت جدته، الذي أصبح الآن بيته وأمه «شهد» التي يحبها أكثر من حبه لأي إنسان على الأرض.

ونقل «سيف» لقاءاته مع أصدقائه - التي كانت في الغالب تتم في النادي أو في إحدى كافيهات المهندسين - إلى بيت السيدة زينب، والغريب أن أصدقاءه الشباب والشابات أحبوا المكان.. شعور غريب بالراحة يتسلل إلى كل من يدخل هذا البيت.. كأنه السحر.

غرف متسعة عديدة.. أرائك من الطراز القديم.. صالون أرابيسك.. لمسات رائعة يضيفها مرتادو المكان خُصُوصًا «ليلى»، حيث كانت تشارك «شهد» التخطيط والتحديث لكل ركن في ذلك المكان البديع مع الاحتفاظ بطابعه القديم وطرازه الفريد، فهنا مكمن السحر القادم من جدرانه.

«ليلى» و»سيف» يرويان معًا شجرة حب تتوارى خلف صداقةٍ ظاهرةٍ، لا يجرؤ أحدهما أن يبوح للآخر بما يمور داخله من مشاعر، لكنهما صديقان حميمان.. هذا ما يجهران به ولا يجدان سببًا لإنكاره.

في ظل تلك التطورات التي طرأت على حياة «سيف»، وجد نفسه مدفوعًا لاتخاذ موقف واضح وشجاع مع صديقته الحميمة «عالية»، كأن موقف أمه من حياتها وشجاعتها في مواجهة مفاجآت القدر وتقلباته جعله أيضًا يعيد حساباته ويراجع أوراقه، ويعلن انسحابه من حياة «عالية» كحبيب، ورغم أنه كان يود أن يصبحا صديقيْن مقربيْن، فإن طبيعة الأمور لا تقبل ذلك، فالصداقة قد تتطور فتصير حبًّا، أما الحب فهو الملك المتوَّج على عرش القلب.. لا يقبل أن يتنازل عن عرشه، ولا يرضى بمنصب وزير في بلاط صاحب الجلالة أو حتى رئيس وزراء.

كانت «عالية» تشعر بالتغيير الذي طرأ على حياة «سيف»، وكانت تكذِّب نفسها في كثير من الأحيان، فهي تحبه وتتمنى أن يظلا حبيبيْن حتى يتخرجا في الجامعة، وبعد ذلك يجمعهما الارتباط الرسمي والزواج.

لكن الرياح لا تأتي في معظم الأحيان بما تشتهي السفن.. ظهرت «ليلى» لتقلب المقادير وتغيِّر الخطط، وتزيح الحب القديم لتتربَّع هي على عرش قلب «سيف».

أما «سارة» فقد رفعت راية التمرد في وجه أمها.. رفضت زيارتها أو حتى الحديث معها تليفونيًّا.. علاقة غريبة تتنازعها مشاعر شتَّى هي علاقة «شهد» بـ»سارة».. الابنة الشابة تحب أمها لكنها تغار منها أحيانًا وعليها أحيانًا أخرى، تتعاطف مع ضعف الأم وتكره قوتها وتمردها.. تحب أن تراها سعيدةً وترفض الاعتراف بكونها امرأةً جميلةً لا تزال.. مرغوبةً لا تزال.. رغم مرورها بحاجز الخمسين.

أكثر من نصف القرن يا أمي ولا يزال قلبك ينتعش بالحب؟ متى تشيخين؟ متى تكبرين وتصبحين أمًّا مثل اللاتي نراهن في أفلام زمان.. الأبيض والأسود؟

البنت تحس بأمها، وفي الأشهر الستة الأخيرة كانت «سارة» تلتقط - برادار الأنثى - ذبذبات الحب تغزو المجال الجوي لـ»شهد»، وترقب بعين المرأة لمعة الفرحة الطفولية تطفو على سطح عينيْ «شهد» عندما يزورهم أنكل «طارق».

ترصد تحركات «شهد» قبل وبعد وأثناء الزيارة.. الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة يكشف المرأة، والتفكير بنَفَس أنثويٍّ يعني أن رجلاً قد اقتحم الدائرة الممنوعة، بعدما عطل جهاز الإنذار.

- ما الذي حدث لكِ يا «شهد»؟ هل سئمتِ الحياة مع أبي الدكتور «أحمد خيري»؟ هل مللتِ العيشة الزوجية الهادئة المستقرة، وهفت نفسكِ إلى التغيير؟ هل هي أزمة منتصف العمر التي أشعلت داخلكِ وهج النزوة؟.. لا أعرف تحديدًا، لكن ما أدركه يقينًا هو أنني لا أطيق العيش معكِ الآن.. لا أستطيع أن أفرمل مشاعر الغضب والغيرة والدهشة.. كيف هان عليكِ عِشْرة ثلاثين سنة؟ كيف تتركينني وتهجرين بيتك الذي تحمل جدرانه أنفاسك، وتنطلق من كل ركن فيه نبرات صوتك؟

- ستقولين إنه سيتزوج عليك وإنك لا تقبلين ذلك؟ منذ متى يا أمي لا تقبلين ذلك؟ كم مرة دخلت عليكِ غرفتكِ لأجدك تنخرطين في البكاء وتدارين دموعكِ؟ وعندما كنت أضغط عليكِ حتى أعرف سبب بكائك كُنْتِ تحكين لي بصوت متقطع ونبرة مشبعة بالألم، كيف وجدتِ آثار علاقة غرامية مع امرأة أخرى في ملابسه الداخلية، وكيف أنك زهدتِ علاقتكما الزوجية بسبب روائح النساء التي تتشبث برائحة جسده وتذوب فيها، لتصنع خلطة غريبة من الروائح تفوح منها رائحة الخيانة.

- أعرف أنكِ تألمت وتعذبت بالجرح، لكن بمرور الأيام أصبح جرحًا مزمنًا تعودت ملمسه، ولم تعد لسعته تؤذيكِ كما كانت في البداية.. كل شيء قابل للتعود حتى الألم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف