الوفد
كامل عبد الفتاح
يا صاحبي إني حزين..
أتأمل شارع مصر الكبير والناس فيه هائمون يبحثون عن كلمة سر يفتحون بها مغاليق المستقبل منذ خمسين عاما ولم يجدوها، أشعر بحزن يذكرني بمطلع قصيدة للعظيم صلاح عبد الصبور «ياصاحبي إني حزين، طلع الصباح فما ابتسمت ولم ينر وجهي الصباح، وأتي المساء .. في غرفتي دلف المساء، والحزن يولد في المساء لأنه حزن ضرير، حزن طويل كالطريق من الجحيم الي الجحيم».
الشعور بالتوتر والقلق والحيرة يسيطر على غالبية المصريين تقريبا واعتقد أن ذلك يعود لحالة فقر ثقافي وليس اقتصادي مما ترتب عليه حالة من الفوضي والارتباك وتجهم المشاعر والكذب الجمعي.. وعلي ما يبدو أن ممثلي الشعب في البرلمان مخلصون جدا أن يكونوا تعبيرا عن فوضي الشارع الذي أتي بهم ليجلسوا تحت القبة ويمارسوا نفس الفوضي والعبث المميز للشارع.. لا أحد يسمع أحدا.. نائب يحلف بالطلاق وآخر يسخر من رئيس البرلمان والكل يتحدث في وقت واحد تماما مثل حال الشارع المصري الذي أصبح بلا هوية ولا ذوق ولا صلة له بالعصر الذي نعيشه.. الناس فقدت الإحساس بالزمن ويبدو الكل اشبه بمن فقد الوعي داخل مولد صاخب تختلط فيه الأدعية والموشحات الدينية وصوت حلقات الذكر بأصوات الباعة وحركات البهلوانات ودخان غرز الكيف وكر وفر لصوص الزحمة.. المجتمع مصاب بالعشي الحضاري والأمية الثقافية ويبدو في حالة عبث جمعي واقرب ما يكون لمريض يوشك على الموت منتحرا بجهله وغيبوبته وعبثيته وعدم إدراكه كم الحمق الذي يمارسه هو والآخرون والذي تحول الي اسلوب ظاهره الحياة وباطنه الموت والتخلف وانهيار العمارة الانسانية داخل الجماعة.. حوادث قتل بعض المواطنين علي يد قلة من رجال الشرطة ليست منفصلة عن عبثية الثقافة المصرية التي تسوق الجميع، وأمام كل جريمة يرتكبها رجل شرطة هناك مئات الجرائم وربما آلاف يرتكبها مواطنون عاديون أحيانا ضحيتها آباء وامهات تزهق حياتهم بأيدي أبنائهم .. ولذلك يجب الانتباه لأهمية توصيف وتشخيص حوادث بعض رجال الشرطة لأن التهويل في تصويرها يخدعنا ويأخذنا بعيدا عن واقع أكبر من هذه الحوادث وأخطر لأننا بلا استثناء قتلنا داخلنا – عن قصد أو بجهل - ومن سنوات الكثير من قيم الجمال والتسامح والمحبة وتحولنا الى كائنات باردة ومصمتة ومسجونة داخل اقفاص بشرية جامدة الملامح والمشاعر.. أحد المفكرين قال يوما إن المصريين يمارسون العادة السرية كل ليلة بتفريغ كل احتقانات والتهابات اليوم امام برامج التليفزيون التي تعيد عليهم عرض مآسيهم اليومية فيستريحون آخر الليل بإعادة تمثيل فواجعهم – واعتقد أن الحال تغير اليوم واصبحنا نمارس هذه العادة في العلن داخل ما يسمي بمجلس النواب وفي النوادي وعلي شاشات الفضائيات وصفحات الجرائد وبالمقاهي والشوارع وفي جلساتنا الخاصة.. الكل يهين الكل والكل متمرد على الكل والسؤال الطبيعي هل هذا النمط من الحياة يمارسه المصريون ويعيشونه داخل دولة أم في الصحراء؟ بالتأكيد هو داخل دولة ينتمون إليها.. وبالتالي لنا أن نتساءل: هل تتحمل الدولة من خلال مؤسساتها المختلفة المسئولية تجاه هذا المشهد العبثي؟ هنا أتصور أن الدولة المصرية لا تملك حتى الآن تصورا عن المشكلة حتى نتمني أن يكون لديها حلول .. الحالة التي نحن بصددها بحاجة الى جهد باحثين في السياسة والاجتماع والاقتصاد وعلم النفس يقدمون للقيادة السياسية تقريرا وافيا عن الحالة الراهنة وخطورتها وكيف نواجهها بقوة الفكر وليس بقوة الأمن. وللأسف حتى الان ليس واضحا ولا ظاهرا أن هناك داخل مؤسسة السلطة هذا التنظيم وهذه المراكز البحثية التي تقدم رؤية كاشفة للقيادة السياسية عن حجم المخاطر الاجتماعية والثقافية التي تهدد كيان المصريين المعاصرين – وأنا مندهش من تصور البعض بأن العاملين الاقتصادي أو الأمني هما المهددان الأكبر لأمننا الداخلي والخارجي – الحقيقة الغائبة عن البعض أن حالة العبث الاجتماعي والثقافي وانعدام المثل العليا واختفاء القدوة وتردي النخبة وفوضويتها أخطر الف مرة من تداعيات الخنقة الاقتصادية التي تمر بها مصر من سنوات .. إحساس الناس بغياب معنى العدالة وامتهان معاني الكرامة الانسانية أخطر الف مرة من تأثير الإرهاب على حاضرنا ومستقبلنا – بدليل أن ثورة يناير قد هبت عواصفها ليس لأسباب اقتصادية ولا بسبب ارهاب ولكن العنوان الأكبر لثورة يناير كان الحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية.. حتى الموجة الثانية في 30 يونية 2013 لم تكن ايضا بدوافع اقتصادية ولكنها كانت عاصفة ضد من تصوروا إمكان طمس هوية مصر التاريخية والثقافية لصالح فكرة تيار أو جماعة.. ما يحرك الناس ويدفعهم للغضب شعورهم بأن هناك تهديداً وجودياً لهم.. وأتصور أن الدولة المصرية الراهنة عليها أن تتنبه لأهمية أن متاعب المعدة ليست مهددة للحياة ولكن متاعب القلب تحمل لصاحبها تهديدا مباشرا لوجوده.. الرئيس السيسي لديه حلم نقي تجاه مصر الوطن والناس ولن يتحقق إلا عندما ينجح في جعل غالبية المصريين قادرين على الحلم مثله ومعه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف