الصباح
وائل لطفى
أين أسامة الباز؟ البرنامج السري للرئيس
>>من المثير للدهشة أن يخفى الرئيس إنجازاته بدعوى الأمن القومى رغم أن أى رئيس يجب أن يقدم إنجازه للشعب ليحاسبه عليه
>>الرئيس يستغنى تمامًا عن تأييد النخبة دون سبب واضح ويفضل أن يتجه لمؤيديه من البسطاء مع أنه يستطيع أن يجمع بين الاثنين معًا
>>تغلب طبيعة رجل الأمن على الرئيس فيفضل أن يبقى رؤيته وبرنامجه فى إطار السر.. وهذا ضد قواعد السياسة من الأساس
>>عبارة وحيدة كشفت فلسفة الرئيس فى التركيز على البنية التحتية لكنها أهدرت وسط تعبيرات أخرى أثارت الجدل
>>استراتيجية 2030 هى برنامج الرئيس الذى لم يعلنه حين ترشحه.. وحين أعلنه ظلمه بخطاب طويل خطف الأضواء من البرنامج
على هامش حالة الجدل التى شهدتها مصر عقب خطاب الرئيس السيسى الأربعاء الماضى.. أسجل عدة ملاحظات أجملها فى التالى:
أولًا: إن الرئيس بخطابه «أيًا كانت مفردات الخطاب والاعتراضات عليه أو التأييد له» قد أهدر فرصة هامة للحديث عن استراتيجية 2030 التى تم إطلاقها فى ذلك اليوم، ذلك أن الخطاب بزوابعه وحقائقه ومفرداته قد غطى على المناسبة التى قيل فيها وعلى الاستراتيجية التى أطلقت فى يوم إلقائه.
ثانيًا: إن الاستراتيجية كما فهمتها هى بمثابة برنامج سياسى للرئيس تأخر إطلاقه لمدة عشرين شهرًا، وأنه كان ينبغى إطلاقها والإعلان عنها فى وقت ترشح المشير السيسى لانتخابات الرئاسة، لكنه رفض وقتها أن يعلن عن برنامجه للرئاسة قائلًا ما معناه إنه تم استدعاؤه للترشح من قبل الشعب ومن ثم فهو ليس مضطرًا لتقديم برنامج، رغم أن الأيام أثبتت أنه يملك البرنامج لكنه فضل ألا يعلن عنه فى سابقة غير معهودة فى تقاليد العمل السياسى، والمعنى أن الرئيس يملك دائمًا رؤية، لكنه يفضل ألا يصرح بها إما خوفًا من «أهل الشر» كما يسميهم أو استجابة لطبيعته كرجل مخابرات سابق أو استجابة لطبيعة شخصية تميل إلى الحذر، ورغم أن ذلك كله مفهوم ومقدر إلا أنه لا يتسق مع قواعد اللعبة السياسية حيث يتقدم الرئيس للشعب ببرنامجه ويلتزم بتنفيذه خلال مدته الرئاسية، ويحاسبه الناس بعد ذلك على ما حقق وعلى ما أخفق عبر صندوق الانتخابات، لكن الرئيس على ما نرى لم يلتزم بشىء من هذا فهو لديه برنامج أخفاه عشرين شهرًا، ثم أعلن عنه فجأة وبطريقة مبتسرة ودون حملة إعلامية سابقة أو لاحقة، ثم هو لديه إنجازات على الأرض يفضل عدم الحديث عن بعضها، ويرى أن إخفاء بعضها هو من دواعى الأمن القومى، ومع كامل الاحترام لوجهة نظر الرئيس، فإن إخفاء البرامج والإنجازات أمر يتنافى مع قواعد اللعبة السياسية ومع الوضع الدستورى للرئيس، الذى يفترض أن يعلن إنجازاته للشعب حتى يستطيع أن يحاسبه عليها «هذا إذا سلمنا أن الرئيس يعترف بحق الشعب فى محاسبته».
ثالثًا: الإنجازات التى تحدث عنها الرئيس حقيقة واقعة على الأرض، ولا أحد يقلل منها، لكنها تفقد جزءًا كبيرًا من معناها إذا لم تكن ضمن رؤية سياسية واقتصادية واجتماعية واضحة، وبدون إعلان هذه الرؤية تصبح الإنجازات مثل قطع متناثرة على رقعة شطرنج غير منتظمة فى خطة واضحة ضمن خطة عمل واضحة، ولعل المفارقة أن الرئيس يملك رؤية بالفعل، لكنه يفضل أيضًا أن يبقيها سرية وأن لا يعلن عنها، ومن جمل متناثرة هنا أو هناك فى خطب مختلفة للرئيس تستطيع أن تلمح ظلالًا من هذه الرؤية وهى تقول إن الرئيس يقدر أن مصر ستستمر فى حربها مع الإرهاب لمدة خمس سنوات تقريبًا «هذا تقدير الرئيس من خطاب سابق»، وأنه خلال هذه السنوات لن تأتى استثمارات أجنبية تذكر إلى مصر، وأضيف من عندى «ولا سياحة» أيضًا، وأنه يفضل خلال هذه السنوات الانخراط فى تجهيز البلد لمرحلة انطلاق من خلال تأسيس بنية تحتية قوية «الطرق والكهرباء والطاقة والموانى والإسكان»، وأنه يجد لذلك أثرًا جانبيًا يتمثل فى تشغيل المئات من الشركات وعشرات الآلاف من العمال فى مشاريع البنية التحتية.
وهى رؤية واضحة وصريحة تستحق الاحترام، حتى وإن اختلفت معها، لكن الرئيس يفضل أن يتركها غامضة ومبهمة ومبنية للمجهول.
وقد أفلتت منه عبارة واحدة يتيمة فى خطاب مسرح الجلاء، وهو يبدأ الحديث عن مشاريع البنية التحتية، قال فيها «الأمريكان عملوا كدة فى 1929»، ثم ضاعت العبارة وسط العبارات والتعبيرات الأخرى التى تميز بها الخطاب، وفى ظنى أن الرئيس كان يقصد أن الأمريكيين لجأوا لطريقة مماثلة فى أثناء الأزمة التى عرفت بالكساد الكبير، حيث يذكر التاريخ أن الرئيس الأمريكى روزفلت «تعامل مع الأزمة بسياسة اقتصادية جديدة تقوم على الدخول فى مشاريع كبرى بهدف تشغيل أكبر عدد ممكن من العمال لحل مشكلة البطالة، وأنه نجح فى ذلك بالفعل».
لا أعرف «وربما أعرف» لماذا اختصر الرئيس رؤيته فى هذه العبارة السريعة التى ضاعت وسط خضم التعبيرات الزاعقة والشعبية للرئيس، رغم أنه لو شرح وفصل فى رؤيته لكان فى هذا شفاء وراحة للناس، المعارض منهم قبل المؤيد.
لماذا يبقى الرئيس رؤيته سرية ويمر عليها مرور الكرام، هل لأنه يفضل مخاطبة البسطاء الذين لا يريد أن يشغلهم بالتفاصيل؟ هل لأنه لا يقبل أن تكون رؤيته إذا أعلنها محلًا للنقاش العام وللرفض وللقبول؟ هل لأن طبيعته كرجل مخابرات تجعله يفضل ألا يفصح عما يدور فى ذهنه؟.
أيًا كان السبب فعلى الرئيس أن يعلن عن رؤيته وأن يشرحها للناس وأن يقبل أن تكون محلًا لرفض البعض ولقبول البعض الآخر، والعبرة فى النهاية لصندوق الانتخاب ولقياسات الرأى العام، والكفة حتى الآن تميل بشدة فى اتجاه الرئيس.
رابعًا: إن الرئيس فى خطابه الأخير وفى جملة سياساته الأخيرة يبدو مثل مدرب فريق قرر أن يسرح جزءًا من اللاعبين دون سبب واضح، وأن يكتفى باللعب بثمانية لاعبين فقط بدلًا من أحد عشر لاعبًا.
والمعنى أن الرئيس بشكل قاطع وجازم ولا لبس فيه قد قرر أن يستغنى عن مخاطبة المثقفين والسياسيين وربما الإعلاميين أيضًا، وقد قال هذا فى بداية خطابه مباشرة حيث قال «أتحدث لكل فئات الشعب المصرى وليس المثقفين فقط»، هكذا قرر الرئيس.. وهكذا تحدث.. وهكذا تشى سياساته، وقد لفت نظرى أن أحدًا من السياسيين لا يدعى لخطابات الرئيس.. لا رئيس حزب ولا ناشط سياسى.. ولا أعضاء برلمان «باستثناء بعض أعضاء البرلمان الشباب فى يوم الشباب المصرى»، بل إن رئيس البرلمان لم يكن حاضرًا للخطاب لسبب أو لآخر.
ولعل المفارقة هنا أن أحدًا من المثقفين لم يكن مدعوًا للخطاب «هناك فارق بين المثقفين والإعلاميين» ولعل طبيعة الرئيس كرجل عسكرى قد نفرت من التواء وادعاء وأمراض أصيبت بها النخبة المصرية، لكن القاعدة تقول إن ما لا يدرك كله لا يترك كله، والواقع يقول إن المثقفين والسياسيين وغيرهم من قطاعات النخبة المصرية كانوا الوقود الحى لثورة 30 يونيو، وهى أساس شرعية الحكم الحالى، والواقع يقول أيضًا إن الرئيس يضحى بتأييد قطاعات كبيرة من النخبة له دون سبب واضح أو معلن، ولعل تغيرًا كبيرًا فى موقف المثقفين المصريين قد حدث بعد الأحكام المتتالية بحبس ثلاثة من المثقفين المصريين «باحث وروائى وشاعرة»، نعرف أن الرئيس يعتمد على تأييد الأغلبية البسيطة من المصريين، لكن نخبة أى مجتمع هى عقله الذى يفكر به، ولعله ليس من الصواب خسارة قطاعات يمكن كسب تأييدها بقليل من المجهود والفهم لطبيعتها.
خامسًا: يثير الخطاب الأخير وما أثير حوله من ردود فعل سؤالًا ملحًا هو: «أين أسامة الباز»؟ وأسامة الباز الذى أعنيه هنا ليس شخص الراحل الكبير، ولكن نموذج «التكنوقراط» الماهر الذى يجمع بين المهنية والثقافة والموهبة الشخصية والحس الوطنى والنزاهة المطلوبة، ليكون مستشارًا ومشيرًا حين الحاجة وحين الاحتياج، ولا يعنى هذا أن المجموعة المحيطة بالرئيس لا تضم كفاءات تجمع بين المهارة والوطنية، ولكن هناك حاجة أكيدة لتوسيع الدائرة وزيادة الكفاءات ومراجعة ما سيقوله الرئيس وكيف سيقوله ولمن سيقوله.
وشخصيًا لم أكن أحب أن يقول الرئيس إنه على استعداد لأن يبيع نفسه حتى لو كنت أدرك أنه يخاطب جمهوره من البسطاء بهذه العبارة العاطفية، كما أننى أقبل أن يطلب الرئيس من سامعيه ألا يسمعوا كلام أحد سواه، لو كان يخطب فى جمهور خاص من مؤيديه، أو فى أعضاء حزب يترأسه أو يرعاه، حيث يكون من الجائز جدًا أن يطلب الزعيم من أتباعه ألا يستمعوا سوى له، أما والرئيس يخطب فى المصريين جميعًا وفيهم المعارضون «حتى وإن كانوا أقلية» والمؤيدون «حتى وإن كانوا أغلبية»، فقد بدا التعبير غير موفق واسىء استخدامه لأقصى درجة من وسائل إعلام معادية ومتربصة ومن إخوان حاقدين ومعارضين هاربين، فضلًا عن أنه أثار استياء مؤيدين يفضلون أن يكون تأييدهم بانحياز العقل لا بفورة العاطفة.
سادسًا: إن الرئيس ومصر فى أمس الحاجة لصياغة سياسة اقتصادية واجتماعية واضحة وغير متناقصة، فسياسات الإسكان الاجتماعى والالتزام بتوفير مسكن لكل مواطن يطلبه والالتزام ببناء ما يقرب من ثمانمائة ألف شقة سنويًا، خطوة كبيرة فى سياسة اجتماعية توفر حقًا اجتماعيًا أساسيًا، لكن هذه الخطوة تتناقض مع خطوات أخرى مثل ارتفاع أسعار فواتير المياه والكهرباء وارتفاع أسعار السلع بشكل عام.
ولعل شيئًا من التوازن يكون مطلوبًا وضروريًا حيث لا يملك كل المصريين الطاقة ولا القدرة على الصبر والانتظار لعبور السنوات الخمس الصعبة، فضلًا عن أن أحدًا لم يشرح لهم الموضوع برمته.
سابعًا: إن ما أعلنه الرئيس من إنجازات وما يلمح إليه من رؤى وبرامج تكاد تكون سرية أو مستترة يكشف عن أزمة كبيرة فى إعلام النظام. أولًا إعلام النظام، ولعل الإعلام المؤيد للرئيس يعرف ما الذى لا يجب أن يقوله، لكنه أبدًا لا يعرف ما يجب أن يقوله. والمعنى أن الإعلام المؤيد يعرف أنه يجب ألا يعارض الرئيس ويدعو الناس إلى عدم معارضة الرئيس، لكنه لا يعرف كيف يقنع الناس برؤية الرئيس «لأنه من الأساس لا يعرفها ولم يطلع عليها».
ثامنًا: بعيدًا عن وسائل التواصل الاجتماعى وسطوة الإخوان عليها فإن عشرين شهرًا على الرئيس فى الحكم تثبت أن هناك الكثير من الإنجاز وأن هناك كثيرًا من الغموض فى الإعلان عن رؤى اجتماعية واقتصادية واضحة. فضلًا عن تعسر فى إتمام مشهد سياسى واضح، فالرئيس يرفض أن يكون له ظهير سياسى واضح، رغم أن هذا من قواعد اللعبة السياسية، ولسببب ما لا يوجد مستشار سياسى أو اقتصادى للرئيس رغم أن هذا أيضًا من قواعد اللعبة، فضلًا عن أنه ضرورة تحتمها المصلحة وبشكل واضح ينتصر السيسى رجل الأمن والمخابرات والإنجاز على الأرض على السيسى الرئيس الذى يجب أن يكون بعد هذا الوقت كبير لاعبى السياسة فى مصر، وفى هذا مؤشر خطر وإن تأخر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف