مصطفى بكرى
مهزلة «العكش» وزمن الجرأة على «المحرمات»!!
لم يكن الأمر مفاجئاً، كان كل شىء متوقعاً، هذه هى النهاية الطبيعية للفقاعات التى تطفو على سطح الحياة السياسية دون مقدمات أو تاريخ سابق، الآن أصبح كل شىء على المكشوف، وظهر الوجه الحقيقى مكشوفاً وبلا خجل أو مواربة، هنا تعود الأشياء إلى طبيعتها، وتناقضاتها، وحقيقتها.
مساء الأربعاء الماضى كان اللقاء، لقد قرر توفيق عكاشة، النائب بالبرلمان، دعوة السفير الإسرائيلى على العشاء فى منزله، استمر اللقاء ثلاث ساعات بحضور الملحق السياسى بالسفارة الإسرائيلية، ثلاث ساعات من الكلام المستمر، الذى تطرق إلى كافة شئون الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية فى مصر.
استغل توفيق عكاشة الحصانة البرلمانية، وقرر أن يلقى بالقنبلة فى وجوه الجميع، فى اليوم التالى أرسل صور اللقاء إلى وسائل الإعلام ، بينما كان راديو إسرائيل قد استبق الجميع بالحديث عن تفاصل اللقاء.
كانت الصدمة عنيفة لهؤلاء البسطاء الذين أعطوا ثقتهم للشخص الذى تاجر بمشاعرهم وآلامهم، وظل لبعض الوقت يمثل نموذجاً لهم، لم يتخيلوا لبعض الوقت أن يضع يده فى يد لوثت بدماء شهدائهم، مستغلاً حصانته البرلمانية فى الاعتداء على الثوابت والمحرمات، وفرض طوق من الحماية على تصرفاته التى بلغت حداً من التجاوز لا نظير له.
لم يكن أمام الجهات المعنية خيار بديل، لم يكن باستطاعتها أن تمنع اللقاء، فاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية الموقعة فى مارس 1979 تنص على جواز التطبيع بين البلدين، وطيلة السنوات الماضية كانت الدولة المصرية تحتكم إلى ضمير شعبها، ووعى المصريين بالمخاطر والتحديات، وإيمانهم العميق بأن توقيع الاتفاقية لا يعنى ترك البلد «سداح مداح» للمعادين والمتآمرين والذين ينتظرون لحظة الانقضاض على الوطن.
وبالرغم أن لقاء بهذه الخطورة كان يستوجب من النائب الحصول على الإذن من رئيس مجلس النواب، إلا أنه تجاهل الجميع، وأدرك أن أحداً لن يستطيع الاقتراب منه.
لقد أعلن «العكش» أن هذا اللقاء لن يكون الأخير، وأنه طلب أيضاً لقاء مباشراً مع رئيس الوزراء «نتنياهو» وأنه موافق على إلقاء كلمة فى الكنيست الإسرائيلى، وبحث سبل التعاون المشترك مع إسرائيل شعبياً ورسمياً، ولا أعرف بأى صفة يتحدث لكنه جعل من نفسه دولة داخل الدولة.
لقد احتفى سفير إسرائيل بالقاهرة بالنائب توفيق عكاشة فى أعقاب اللقاء وقال: «إنه يقف على النقيض من سياسة مقاومة التطبيع الرسمى للبرلمان المصرى»، وهو أمر لا يحوى إغواء لمجلس النواب بضرورات التطبيع، وإنما يحرض عليه، ويفتح الباب أمام آخرين للمضىّ فى ذات الطريق.
وخلال الساعات الماضية بدأت تتكشف تفاصيل الجلسة المغلقة بين عكاشة والوفد الإسرائيلى الذى يعانى العزلة من المصريين، حيث أكد عكاشة نفسه أنه طلب من السفير الإسرائيلى ضرورة تدخل حكومة بلاده لحل مشكلة سد النهضة باعتبار أن المفاوض المصرى عاجز عن التفاوض وأن إسرائيل بيدها مفتاح الحل، وأن مصر على استعداد فى ضوء ذلك لتقديم مليار متر مكعب من مياه نهر النيل إلى «إسرائيل».
وإذا كان هذا الكلام يعكس استهانة بمؤسسات الدولة المصرية ويظهرها بمظهر العجز، فإنه أيضاً يعظّم من الدور الإسرائيلى، ويمنح إسرائيل «معنوياً» حصة من مياه نهر النيل، التى طالما سعت إليها، ويرسخ فى أذهان العالم أن حل مشكلة سد النهضة هو رهن بتوصيل مياه نهر النيل إلى إسرائيل، وهو مخطط شيطانى هدفه إضعاف الروح المعنوية للمصريين وإثارة الإحباط فى النفوس ووضع الشعب المصرى أمام خيار واحد ووحيد، فأراد بذلك أن يقوم بدور الطابور الخامس الذى يمهد لأهداف العدو، ويفتح ثغرة فى الجدار الصلب الرافض للتفريط فى الأمن القومى المصرى.
ووضح أن «العكش» قد أسهب كثيراً فى الحديث عن تلك الأمور خلال لقائه مع السفير الإسرائيلى، بل وصل به الأمر إلى أن يطلب وساطته فى عقد لقاء ثلاثى بحضوره وحضور سفيرى أمريكا وبريطانيا إلى جانبه خلال الأسبوع الحالى لاستمرار التباحث حول هذه القضية وغيرها.
ولم يألُ «العكش» جهداً فى استدعاء التاريخ والجغرافيا فأعلن أنه يعرف المكان الحقيقى لهيكل سليمان، بعد أن عجز علماء الآثار اليهود والأجانب عن التوصل إلى مكانه الذى يعرفه تفصيلاً أسفل المسجد الأقصى، فقط هو يريد الفرصة ليدلهم عليه، وهو حديث الغرض منه تأكيد الرواية اليهودية عن «الهيكل» الذى يعطيهم الحق فى هدم المسجد الأقصى.
ورأى «العكش» من وجهة نظره أن الصهاينة لا يدركون ولا يتفهمون نفسية الشعب المصرى وعدم نسيانه للعملية الإسرائيلية التى راح ضحيتها عشرات الأطفال فى مدرسة «بحر البقر»، ولذلك اقترح عليهم حلاً سحرياً يقضى ببناء عشر مدارس بأموال إسرائيلية فى مصر كتعويض لدماء الشهداء التى سقطت من جرّاء الغارة الإسرائيلية الإجرامية.
ولم يقتصر الحديث على هذه الموضوعات، بل تحدث بنفسه فى قناته «الملاكى» عن بعض الأمور الأخرى التى تناولها حديثه مع السفير الإسرائيلى ومنها..
- أنه توسط لدى نتنياهو لأن يمهد لعقد اللقاء الذى جرى بين أوباما والسيسى على هامش أعمال الأمم المتحدة فى نيويورك العام الماضى.
- أن نتنياهو سافر خصيصاً لأمريكا لإقناعها بثورة 30 يونيو رغم خلافه مع أوباما.
- أن المؤتمر الاقتصادى فى شرم الشيخ تم تنظيمه بواسطة شركة «إسرائيلية» وهم من حددوا الصفقات.
والحقيقة أن تناول مثل هذا الكلام مع سفير دولة أجنبية وخاصة إسرائيل لا يعنى فقط «ضرباً من الجنون والاستهانة بالمحرمات» وإنما «تخابر وتجسس» مكشوف يستوجب من الجهات الأمنية القبض عليه متلبساً وتقديمه للمحاكمة العاجلة.
لقد وصل به الأمر إلى أن يطلب من السفير الإسرائيلى ضرورة إقناع حكومته باستخراج جثمان الرئيس الأسبق أنور السادات من قبره وضربه بالنار «لأنه استطاع أن يضحك على إسرائيل ويسترد أراضى سيناء»، وهو أمر كما يرى عكاشة ألحق الضرر بإسرائيل التى لم تعرف قدر مصر التى قال عنها عكاشة حرفياً «مصر عروسة حلوة لإسرائيل يا تتجوزها يا تدمرها»!!
إن السؤال الذى يطرح نفسه هو: هل ما قام به «العكش» لا يمثل ضرراً ولا ضراراً كما يقول البعض، أم أنه «خيانة» بالملابس الرسمية تحميها الحصانة البرلمانية؟