كمال زاخر
قراءة فى واقعنا المصرى (2)
«آفة حارتنا النسيان».. توصيف عبقرى من أديبنا نجيب محفوظ المعجون بالهم المصرى لواقعنا الحياتى، لعلنا نتذكر كيف ركن الثوار فى موجة الثورة الأولى إلى الراحة بعد إعلان الرئيس الأسبق مبارك تخليه عن السلطة، ليقفز عليها أبرز فصائل الإسلام السياسى فى نهم وتسارع ليفككوا منظومة الحياة المصرية ويقزموها من دولة إلى ولاية فى حلمهم المفارق للحداثة، حتى نسترد وطننا فى الموجة الثانية التى أكدت التلاحم واليقظة المصرية شعباً وجيشاً، لكن النسيان كان غير بعيد عنا، وبشكل أفدح.
نسينا الخريطة المفككة فى محيطنا الحيوى، وقد صارت بلدانه محلاً للصراع العرقى والقبلى وصار الجيش القومى ميليشيات فئوية عرقية تتقاتل فيما بينها. نسينا ما زرعه الفساد عبر نظام مبارك بامتداد عقود، حتى صار خبز يومنا نتعاطاه وكأنه نسق حياة، بعد أن دمر البنية الاقتصادية والاجتماعية، وهُنّا على أنفسنا، وصارت القروض الإقليمية والدولية بشروطها المجحفة حلاً سحرياً لمشاكلنا الآنية، ولم نلتفت إلى كونها أثقالاً رُبطت بجسد وطن آخذ فى الغرق.
نسينا سنة الإخوان وما حملته من بذور توزيع أطراف الوطن على دول الجوار تأسيساً على أنهم ونحن ولايات يحق تحريك خريطتها الداخلية دون وجل، وفيها تم الاعتداء على صرح القضاء واستلاب صلاحياته، وتحصين قرارات الرئيس ضد الطعن عليها، وينتهى الأمر إلى دستور معيب، ومعها نسينا دفع الإخوان للوطن إلى حافة الحرب الأهلية بعد أن انتفض الشعب لمواجهة عصاباتهم التى اعتصمت بميدانى رابعة العدوية والنهضة، لتصدر أوامرهم بحرق مصر فى 14 أغسطس 2013 لولا يقظة المصريين والانحياز للهم الوطنى على حساب الهم الطائفى. ولم ننتبه للمؤسسات المحورية، التى تضبط إيقاع حياتنا وقد تم اختراقها من خلايا الفساد ومناهضى الدولة المدنية بامتداد ما يقرب من نصف القرن، وهم من يقومون الآن خلسة بتفخيخ الوطن، وبعضهم يمسكون برقبة الإعلام والتعليم والقضاء، ولا ينسون عداءهم مع ثورة 30 يونيو التى قوضت مسعاهم وأبعدتهم عن المسرح.
وتسللت إلينا دعوات تُحمِّل اللحظة أوزار جرائم الأنظمة الغاربة، بل وبعضها يأسى على ما كان، ويدعو لتمجيدها، تذكرت معها ما سجلته التوراة عن تذمر العبرانيين على نبى الله موسى [فَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَيْضاً وَبَكَوْا وَقَالُوا: «مَنْ يُطْعِمُنَا لَحْماً؟ قَدْ تَذَكَّرْنَا السَّمَكَ الَّذِى كُنَّا نَأْكُلُهُ فِى مِصْرَ مَجَّاناً، وَالْقِثَّاءَ وَالْبَطِّيخَ وَالْكُرَّاثَ وَالْبَصَلَ وَالثُّومَ. وَالآنَ قَدْ يَبِسَتْ أَنْفُسُنَا. لَيْسَ شَىْءٌ غَيْرَ أَنَّ أَعْيُنَنَا إِلَى هذَا الْمَنِّ]، (سفر العدد 11)، الغريب أنهم يرفضون المن الذى أرسله الله لهم، ويشتاقون للكُرَّات والبصل والثوم المقرونة بالعبودية (!!).
وبينما ندعو إلى الانتقال من الفرد إلى المؤسسة، نعود لنطالب الرئيس بالتدخل فى أعمال البرلمان والإعلام والقضاء، وتصحيح اختلالاتهم، وفيما نطالب بالانتقال من الثورة إلى الدولة نرفض مقاومة الفوضى بل نقاوم إعمال القانون والانضباط، ويمتد التناقض إلى رفض أن يصبح العمل منهجنا وطريقنا للخروج من نفق الانهيار الاقتصادى، ظنى أن هذا من تداعيات تكريس النظام الأبوى الذى كانت فيه الأنظمة الفاشية تغازل الشارع بسياسات غير مدروسة وكارثية، تشغله عن المشاركة فى إدارة شئون وطنه، وتدفعه لقبول تأميم الشارع السياسى.
ويبقى السؤال: هل انعكست سياسات تجريف التعليم والإعلام والثقافة على أداء منظومات البرلمان والأمن والعدالة؟
سنطرح هذا فى مقال تالٍ.