حتى الآن لا أتصور ـ ولو بعين الخيال ـ احتمال أو فكرة رحيل هيكل عن الدنيا. ما زال لدىَّ هاجس أننى فى لحظة ما سأسمع صوت التليفون وأرد لأجده على الناحية الأخرى يسأل عنى ويعاتبنى ويطلب منى الذهاب إليه. لكنه الموت، لغز الأبدية، نهاية النهايات.
يوم الإثنين الماضى خرجت من البرلمان فى الخامسة مساء وقصدت مسجد عمر مكرم. كان معى من زملائى النواب: أحمد سلام الشرقاوى وضياء الدين داوود. كان ميدان التحرير والشوارع المؤدية إليه قد تحولت لجراج تقف فيه السيارات. لا توجد سيارة واحدة تتحرك. سمعتهم يقولون فى الشارع: عزاء هيكل. الزحام لم يكن فى السيارات فقط. لكنه زحام البشر أيضاً.
لجأت لذاكرتى، متى شاهدت هذا المشهد؟ أم أنه غير مسبوق؟ المشهد حدث يوم تشييع الشهيد عبد المنعم رياض، وإقامة العزاء فيه. كان الطوفان المصرى الذى يحيط بعبد الناصر فى ميدان التحرير، واستمر حتى الميدان الحامل لاسمه يؤكد المقولة التى تلخص تاريخ المصريين: عندما يصير الكل فى واحد.
تكرر المشهد عندما كان عزاء عبد المنعم رياض. زحف مصرى. إصرار فى العيون على الانتقام وقهر العدو وأخذ الثأر من الذين اغتالوا القائد البطل. ورغم أنه ضابط كبير فى الجيش المصرى، كان رئيس أركان حرب القوات المسلحة. فقد استشهد فى الخطوط الأمامية. آخر خط أمامى قبل أرض القتال.
عشت المشهد من جديد بعد 48 عاماً. عزاء هيكل كان الزحام أشد. رغم أن عبد الناصر لم يكن موجوداً وسط الجماهير التى التفت حوله فى كل مكان. وأوشكت أن تحمله وتحمل نعش عبد المنعم رياض إلى عنان السماء.
دخلت عمر مكرم بصعوبة بالغة. كان مقرئ القرآن الكريم ينهى القراءة بعد آية أو آيتين. وإن أطال بعد ثلاث آيات، ليعطى الناس الفرصة للانصراف بعد أقل من دقيقتين أو ثلاث قضوها فى تقديم الواجب.
كانت مصر كلها هناك. ولفت نظرى البسطاء من أهل مصر الذين أتوا ليقدموا واجب العزاء فى رجل ربما لم يعرفوه فى حياته. لكنها أسطورة هيكل. عندما كنت أدخل عمر مكرم وأصافح الدكاترة أحمد هيكل وعلى هيكل وحسن هيكل. كنت أدرك أننا لا نودع شخص هيكل. ولكننا نلوح بمناديل الوداع لعصر وزمان وعمر طويل من تاريخ الوطن.
جاء وفد حزب الله ممثلاً للسيد حسن نصر الله لتقديم العزاء. والوفد ضم مسئول العلاقات الإعلامية بالحزب الحاج محمد عفيف. ومسئول العلاقات العربية الشيخ حسن عز الدين. والنائب على المقداد. وقبلهم أو ربما بعدهم جاء سفير إيران فى القاهرة. وكانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية من أوائل الدول التى أعلنت عزاءها فى رحيل الأستاذ هيكل.
جلست بجوار عبد الحكيم جمال عبد الناصر. ورأيت عن قرب جاذبية تتفوق على جاذبيات كل مغناطيسيات العالم عندما كان يشاهده المعزون ويأتون إليه لا ليقولوا له البقية فى حياتك. ولكن ليتذكر كل منهم الراحلين جمال عبد الناصر، رحل عن عالمنا قبل 46 عاماً، وصديق عمره وشريك ثورته ورفيق دربه محمد حسنين هيكل الذى رحل قبل أيام.
تعبت يدى من المصافحة. وجف الكلام على لسانى. فالإنسان فى مثل هذه المشاهد يحتار: هل يعزى الآخرين أم يعزى نفسه؟ أم أن العزاء لنا جميعاً؟ فالجميع مصابٌ بهذا الفقد الذى لم نكن، نتوقعه والذى فاجأنا رغم أن الرجل تجاوز التسعين من عمره.
المهندس إبراهيم محلب. واسمه أكبر من كل المناصب جاء بمفرده لا مواكب ولا حراسات ليقدم العزاء فى الرجل. وانا سمعت من هيكل قبل رحيله بشهر أن المهندس إبراهيم محلب زاره فى مكتبه زيارة طويلة. ورأيت اللواء محمد العصار وزير الإنتاج الحربى ويجمع بينى وبينه وبين مصطفى الفقى ـ كان موجوداً ـ أننا من أبناء البحيرة. وكان بهاء طاهر يجلس فى مدخل القاعة. نادانى حافظ عزيز لأسلم على بهاء بناء على طلبه. قبَّل بهاء رأسى وقال لى: أعتبرك ابنه الرابع.
الدكتور على عبد العال، الصديق قبل أن يكون رئيساً للبرلمان كان حريصاً على المجئ. وربما حدثت له مشكلة بسبب مواعيد الجلسات فى البرلمان التى تمتد إلى وقت متأخر من الليل. ولا أعرف كيف تصرف وكان هنا فى العزاء. رغم أننى استأذنت والجلسة منعقدة وكان إيقاعها يقول إن أمامهم الكثير.
تعبت واستغرقت وقتاً من أجل الوصول من قاعة الرجال لقاعة النساء فى العزاء. وكنت أتمنى لو أنها أصبحت قاعة واحدة. فمن نتقبل العزاء فيه رجل سبق زمانه وحلم بأحلام كثيرة ما زالت مستحيلة.
يوم الخميس الماضى ذهبت إلى بيته. هذه ثانى زيارة فى غيابه المستحيل لأقدم العزاء للسيدة هدايت تيمور. لم أتمكن من تقديمه لها عندما كانت فى عمر مكرم. بسبب زحام يوم الحشر الذى كان يحيط بالمسجد. كان الحضور من السيدات يوشك أن يتساوى بحضور الرجال. كانت هناك الدكتورة فايزة أبو النجا التى يبدو اسمها أهم من أى صفات يمكن أن توصف بها.
جئت إلى هذا البيت يوم الإثنين الماضى. بعد أن علمت بوفاته. ولم أغادره إلا إلى مسجد سيدنا الحسين، ثم مقابر الأسرة فى المنطقة الفاصلة بين مدينة نصر ومصر الجديدة.
فى هذه الزيارة الليلية مساء الخميس الماضى لم يكن اللقاء مع هدايت تيمور وأحمد هيكل وعلى هيكل وحسن هيكل للعزاء الذى تعودنا عليه. العزاء التقليدى. لكن هيكل الكبير كان معنا. وعندما أشارت السيدة هدايت لكرسى يتصدر المائدة لكى أجلس عليه، ارتجفت. أوشكت أن أسألها أخشى أن يكون كرسى الأستاذ. لكن الأستاذ كان حاضراً بغيابه المستحيل. موجوداً لأن التنائى لم يحدث.
المكان كما هو. كنا نجلس فى المسافة ما بين المكتب والمنزل ما بين الصالونات وغرفة الطعام. وروحه حاضرة. ولوحاته التشكيلية النادرة معلقة على الجدران. وبعض كتبه موجودة. المغلق الوحيد كان مكتبه الذى يكتب ويقرأ ويجلس فيه. فهل أقول إن الأستاذ بدأ رحلة جديدة من هناك إلينا من البعيد ليبقى قربنا؟ أم ما هذا الذى يجرى فعلاً هذه المرة يا موت؟!.