الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
لماذا ندافع عن حرية التفكير والتعبير؟!
لماذا ندافع عن حرية التفكير والتعبير؟
لأن حرية التفكير والتعبير هى أول حق من حقوق الانسان الذى لايتميز عن غيره من الكائنات الحية إلا بالعقل. فإذا كان العقل هو الامتياز الوحيد الذى يكون به الانسان إنسانا فالتفكير والتعبير فطرة فى الانسان، أو حق طبيعى يتمثل به الانسان نفسه ويعى وجوده ويشخص إنسانيته.

ونحن ندافع عن حقنا فى التفكير والتعبير لأننا لانستطيع بدون هذا الحق أن نمارس حياتنا كبشر لا أفرادا ولا جماعات. لانستطيع بدونه أن نجتمع، أو نتبادل الرأي، أو نتفاهم، أو نتوافق، أو نختار، أو نكشف عن الخطأ، أو نصححه، أو نستفيد من تجارب الماضي، أو نرسم صورة المستقبل. باختصار، حرية التفكير والتعبير شرط للحرية لايكون الانسان بدونه حرا، ولا يكون بدونه إنسانا.

فإذا طرحنا سؤالنا بالسلب أو بالنفى وسألنا عن الأسباب، أو عن القوى التى تقف وراء مصادرة هذا الحق فالجواب سهل واضح وهو أن حرية التفكير والتعبير كما أنها المدخل الطبيعى للتمتع بكل الحريات، فمصادرتها هى المدخل الطبيعى لمصادرة كل الحريات. وإذا لم يكن من حقنا أن نعبر عن رأينا فى الخطاب الدينى المتخلف كما فعل فرج فودة، أو نصر حامد أبوزيد، أو اسلام بحيري، كيف يكون من حقنا أن نشارك فى أى نشاط سياسى أو اجتماعي؟ وإذا لم يكن من حقنا أن نستنكر مانراه فى عيد الأضحى من عروض دموية تقام فى شوارعنا ومياديننا، ويؤدى أدوارها الجزارون والخراف والجمهور المتفرج. الجزارون بما فى أيديهم وأحزمتهم من أسلحة مسنونة، والخراف بما يملأ عيونهم من وداعة وتوسل واستسلام، والجمهور المؤلف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال يؤدون دور الجوقة السعيدة المشجعة كلما تفجرت نافورة الدم وسقطت الضحية منتفضة مرتعشة ـ إذا لم يكن لنا الحق فى أن نرى كما رأت فاطمة ناعوت أن ما يجوز فى الصحارى والطرق المقطوعة والكهوف الجبلية لا يجوز فى المدن العامرة، وأن العنف لا يصح أن يمارس بهذا الاستهتار حتى مع الحيوان الأعجم، لأن العنف يستدعى العنف ويشجعه، والدم ينطبع على ذاكرة الطفل ويسكن وجدانه فيشوهه ويصيبه بالبلادة والقسوة ـ إذا لم يكن لنا الحق فى التعبير عن رأى كهذا الرأى كيف نحصن أنفسنا ضد التطرف وكيف نؤدى واجبنا فى مواجهة الارهاب؟ وإذا لم يكن من حق أحمد ناجى أن يعرفنا فى روايته على زمن حافل بالانهيارات التى تعرضت لها بلادنا، وعلى جيل من المصريين لا نعرفه، وأن يرسم لنا صورته كما هى فى الواقع الحى مستخدما لغته وهى خليط من العربية والانجليزية، ومن العامية والفصحى، ومن لغة الصالونات والملاهىالليلية، كاشفا عما يتجرعه هذا الجيل من يأس وما يعيشه من ضياع واغتراب ـ إذا لم يكن من حقه أن يتجاوز بعض الحدود الشكلية ليقبض على الواقع بكل ما يزخر به من بؤس وقذارة ويمعن فيه النظر ـ إذا لم نسلم له بهذا الحق كيف نطالبه بأن يكون صادقا معنا؟ كيف نسمح له بأن يكون روائيا فإذا كتب رواية قرأناها على أنها مقال؟ كيف نستنكر ما استخدمه من مفردات لا تستخدم فى اللقاءات الحميمة وحدها ولا فى العشوائيات الخارجة على القانون فحسب، بل تستخدم أيضا فيما تركه لنا كبار الشعراء والكتاب والفقهاء العرب والأجانب القدماء والمحدثين أمثال أبى نواس، والمتنبي، وأبى حكيمة، والجاحظ، والأصفهانى، والسيوطى، والنفزاوى، والرازى، وابن هشام، وبودلير، وجيمس جويس، ود.هـ. لورنس؟ بل هى مستخدمة حتى فى بعض النصوص الدينية وبعض الموسوعات الفقهية المقررة على طلاب الأزهر. وقد تصدى الجاحظ منذ ألف ومائتى عام لهذا النفاق المتأصل فقال فى كتابه «الحيوان»: «وبعض الناس إذا انتهى إلى ذكر الـ... ارتدع، وأظهر التقزز، واستعمل باب التورع. وأكثر من تجده كذلك فإنما هو رجل ليس معه من العفاف والكرم إلا بقدر هذا الشكل من التصنع. ولم يكشف قط صاحب رياء ونفاق إلا عن لؤم مستكمل، ونذالة متمكنة»!

وباختصار. حرية التفكير والتعبير خطر على هؤلاء الكذابين المنافقين الذين ذكرهم الجاحظ وعلى كل القوى التى تستفيد من الصمت وتخاف من الكلام وتجتهد فى التستر على ما يحدث وعدم المساس بما هو قائم. ولهذا تتعرض حرية التفكير والتعبير للمصادرة من جانب أجهزة السلطة ومؤسساتها الدينية، وللتجاهل وعدم الاهتمام من جانب المواطن البسيط الميال بحكم ثقافته الموروثة المتخلفة للمحافظة، والخوف من التغيير، والارتياب فى كل جديد، لأن الجديد الطارئ يقلقه ويؤرقه ويدفعه لمراجعة نفسه وتغيير عاداته. ومن هنا الموقف السلبى اللامبالى من حرية التفكير والتعبير والاستعداد لاساءة الظن بها، وتصديق ما يوجه لها من إتهامات لاتزال تحاصرها وتقطع عليها الطريق وتمنعها من أداء رسالتها فى تحريرنا من اغلال الماضي، ومحاربة الشعوذة والمتاجرة بالدين، وتزكية العقل، وتشجيع الاجتهاد، والانحياز النهائى للديمقراطية، والانتصار لحقوق الإنسان.

حرية التفكير والتعبير تتهم بالتنكر لتراث الآباء وتقليد الغربيين والنقل عنهم. وتلك هى التهمة التى وجهت لطه حسين حين أصدر دراسته الجريئة عن الشعر الجاهلي، ووجهت لمنصور فهمى حين انجز بحثه الذى نال به درجة الدكتوراه من جامعة السوربون عن «حالة المرأة فى التقاليد الاسلامية»، ووجهت للويس عوض ردا على ما أصدره من مؤلفات فى الادب والتاريخ واللغة. ولاتزال هذه التهمة توجه حتى الآن، وبعنف أشد، كما رأينا فيما حدث لإسلام بحيري، وفاطمة ناعوت، وأحمد ناجى لأن حرية التفكير والتعبير لم تستطع حتى الآن أن تنتزع مكانها فى بلادنا التى توطن فيها الطغيان وتسلطن، فمن الطبيعى ان تعتبر عند البعض نبتة غريبة لا تعنى إلا فتح المجال للتعبير عما نختلف فيه.

فاذا أضفنا الى ذلك أن الذين يدافعون عن حرية التفكير والتعبير هم النخبة المثقفة التى تعيش حياتها وتمارس نشاطها فى معظم الأحوال بعيدا عن رجل الشارع المهموم بلقمة العيش أدركنا السبب الذى أخرج حرية التفكير والتعبير من قائمة الضروريات وجعلها ترفا فكريا، ثم حولها إلى تهمة. ومادامت الحرية قد أصبحت تهمة فقد أصبح الطغيان السياسى والدينى أمنا وعدالة!

غير أن القول بأن حرية التفكر والتعبير لاتهم عامة المصريين وأنهم يعتبرونها فكرة مستوردة ـ هذا الكلام لا يخلو من خلط وسوء قصد. أما الخلط فهو عدم التمييز فى حرية التفكير والتعبير بين الحق والثقافة. من المؤكد ان كل المصريين يمارسون حقهم فى التفكير والتعبير كل بطريقته. غير ان هذه الممارسة تحتاج إلى ثقافة تدعمها وتصححها.

وأما سوء القصد فهو التشكيك فيما تمثله الديمقراطية للمصريين الذين يحب البعض ان يعمم موقفهم الذى يراه سلبيا من حرية التفكير والتعبير على موقفهم من كل الحريات. لينتهى إلى أن المصريين لايريدون الديموقراطية. لكن المصريين سيثبتون للعالم أن هذا البعض واهم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف