الأهرام
جابر عصفور
الكتيبة السوداء -4
الوجه الآخر للمأساة ـ فى كتيبة سوداء ـ هو الحديث عن رحلة الأمير ماكسميليان وزوجه شارلوت، فكلاهما يدفع حياته ثمنا لأوهامهما ولا يخرج عن الشرك الذى نصبته لهما القوى الاستعمارية التى ينتميان إليها بحكم النسب أو بحكم المصلحة.
وربما كان صغر سنهما ـ كما تقول الرواية ـ عاملا مساعدا على وقوع كليهما فى الفخ الذى نصبه لهما الإمبراطور نابليون الثالث وزوجه أوينى التى طلبت من قريبها ديليسبس أن يقنع الوالى سعيد باشا بإسهام مصر فى الحرب الاستعمارية بإرسال الكتيبة السوداء. أما الأمير ماكسميليان فكان شابا فى الثلاثينيات من العمر حالما مثاليا إلى حد كبير، ينتسب إلى أسرة إمبراطورية حقا، ولكنه لم يرث منها الخبرة السياسية والذكاء فى المناورة، وهكذا يقع ضحية لنابليون الثالث الذى يختاره كى يفرضه إمبراطورا على شعب المكسيك الذى لا يعرف عنه شيئا ولا تصله به أى علاقة، ولكن الطمع يدفع به إلى أن يقبل عرض نابليون الثالث، خصوصا بعد أن أرسل إليه أن البرلمان المكسيكى قد بايعه إمبراطورا على المكسيك ولم يكن يعرف بالطبع أن البرلمان المكسيكى هذا، ما هو سوى صنيعة للفرنسيين الذين استعمروا المكسيك ولعبة فى أيديهم، ولهذا يستجيبون لرغبة نابليون الثالث ويبايعون الأمير ماكسميليان إمبراطورا عليهم، خصوصا أنه ينتسب إلى واحدة من أعرق الأسر الحاكمة فى أوروبا العجوز.

ورغم أن ماكسميليان يبدو مترددا غير راغب فى هذه المؤامرة، فإن زوجه الشابة شارلوت التى تحلم بأن تكون إمبراطورة تدفعه دفعا إلى القبول، فيذهب إلى مقابلة نابليون الثالث الذى يقنعه بإغراءات مالية لم يستطع أن يقاومها، ذلك على الرغم من علمه أن قبوله المنصب يعنى أنه سيصبح مسئولا عن ديون هائلة لفرنسا لابد من تسديدها. وبعد أن يغادر فرنسا يذهب لزيارة ابنة العم الملكة فيكتوريا العجوز التى تمد يدها وتحتوى وجهه بين كفيها «تتأمله قليلا كأنها تستجلى ملامحه، وتتأمل لحيته التى تركها تنمو وتحيط بوجهه مثل أسد صغير، وتهتف بصوت مهتز سوف يقتلونك يا صغيرى» كأنها بذلك تستبق الأحداث وتتنبأ بنهايته، ولذلك يتركها ماكس الذى تتطلع إلى وجهه «فتجد الدموع تنحدر من عينيه فى صمت». ويغادر ماكس لندن إلى روما حيث يقابل البابا دون أن يدرك الورطة التى أوقع نفسه فيها. فقد أصبح مطالبا بدفع الدين الذى تراكم على المكسيك، والذى بسببه قامت الحرب لكى تحصل فرنسا على مائتى مليون فرنك، فالنقود هى التى تتكلم فى هذه المأساة التى سرعان ما يذهب ضحيتها الشاب الذى لم يدرك أن عرش المكسيك مجرد صفقة مالية رغم أنه لم ير المكسيك بعد. ويجد نفسه مفلسا وعلى حافة الخراب، فيقول لوزير المالية الفرنسى فى سخرية: «لم أتسلم العرش بعد، وأجد نفسى مفلسا وعلى حافة الخراب! من الخير لى ألَّا أقبله إذاً» . فيقول له الوزير الداهية: «على العكس يا مولاى ستصبح رجلا واسع الثراء، لقد أعطى جلالة الإمبراطور أوامره أن يعطيكم مبلغ 80 مليون فرنك على الفور لتغطى تكاليف توليكم العرش» . هكذا ينسى الأمير الذى ينتسب إلى عائلة هابسبورج أطماعه فى ملك بلده النمسا بعد وفاة أخيه ملك النمسا واستبدل بها حلمه فى إمبراطورية جديدة يحلم بتأسيسها فى عالم جديد، ناسيا التحديات المهولة التى سيواجهها، ويمضى مع زوجه الشابة الطموح فى رحلة تنبأت بنهايتها الملكة فيكتوريا قبل أن يغادر ذلك الإمبراطور الغر أرض أوروبا. ولا يختلف الحال عندما يذهب ليقابل بابا روما، فكل ما كان يشغل الأخير ليس شخص الأمير النمساوى ولا مصير زوجه، وإنما ما للكنيسة من أموال لابد أن ترد إليها، مطالبا إياه بأن يعيد للكنيسة الإقطاعية كل ما أخذه منها الثوار من أراض شاسعة وثروات هائلة، وكأن البابا بما قاله لم يكن بعيدا هو الآخر عن الأطماع المالية، فلا مجال للدين فى السياسة ولا علاقة للشعوب بها. فالشعوب مصطلح لم يكن له قيمة فى العالم الذى ينتسب إليه أمير هابسبورج الذى سرعان ما يصبح إمبراطورا ولا يقبل أى شكل من أشكال الرفض الذى تواجهه به الولايات المتحدة التى أصبحت تقيم نظاما جمهوريا واعدا لا يريد أن يتجاور معه نظام إمبراطورى آفل، ينتمى إلى أوروبا العجوز.

ويظهر ذلك عمليا فى وصول الإمبراطور ماكسميليان وزوجه شارلوت إلى ميناء «فيرا كروز»، حيث تهبط سفينتهما فى الوقت نفسه الذى كانت تبحر فيه سفينة القنصل الأمريكى الذى كان عليه أن يغادر المكسيك تعبيرا عن رفض بلده لإقامة إمبراطورية جديدة. ويحاول الإمبراطور الجديد الشاب أن يقيم إمبراطوريته على أنقاض دولة كل ما فيها مخرب، وكل ما فيها يتهاوي، ولكنه بطبيعة شخصيته الحالمة المثالية يمضى وراء حلمه الذى ليس سوى وهم ساعيا إلى إقامة يوتوبيا خيالية، ولكن الإحباطات تواجهه باستمرار فلا ينجح فى تحقيق أى حلم من أحلامه. ورغم إخلاصه فى السعى فإن شخصيته المثالية الحالمة، فضلا عن عدم خبرته، وسيطرة قائد الجنود الفرنسيين الذين يحمونه، تسهم هى الأخرى فى إحباط هذه الأحلام. وتكون النتيجة أنه يستغرق تماما فى أوهامه، ويهجر زوجه الشابة التى تذكر عيد ميلادها الرابع والعشرين، تاركا إياها بعد ذلك للمزيد من الوحدة والحرمان العاطفى اللذين يدفعان بها إلى الجنون فى النهاية، فقد ظلت تعانى الوحدة القاتلة، والرغبة فى أن تأتى له بولى للعهد كى تضمن بقاء أسرتهما فى هذه الإمبراطورية التى لا أساس متينا لها. ولكن انغماس الإمبراطور الشاب فى نزواته النسائية يحاصرها بالإحباط، وتصبر طويلا قبل أن تفكر فى الخيانة التى تصبح علامة على تباعد المزاج بين الزوج والزوجة. وهنا يظهر دور الكتيبة السوداء؛ فأربعة من أفراد هذه الكتيبة يضحون بحياتهم كى ينقذوا عربة الإمبراطورة من التحطم على الصخور. وتحتفى بهم الأميرة لأنهم أنقذوا حياتها فتشكرهم سائلة إياهم عن أسمائهم وملتفتة إلى الشخص الذى بادر فى شجاعة نادرة بالقفز إلى عربتها كى يحول بينها وبين السقوط من فوق التل، وتسأله عن اسمه فيخبرها أن اسمه «عاصي» الذى تنطقه «آسى» فتأمر أن يكون حارسا خاصا لها. وعندما تتعقد الأمور، وتنقلب موازين القوى فى أوروبا العجوز ويصعد بسمارك الألمانى على حساب قوة فرنسا، يشعر الإمبراطور نابليون الثالث بالحاجة إلى استعادة جيشه الموجود فى المكسيك فيصدر قرارا إمبراطوريا بعودة الجيش الفرنسى مدركا أن هذه العودة ستترك الإمبراطور الشاب ماكسميليان عاريا بلا حماية أمام أعدائه، خصوصا بعد أن حال قائد الجيش الفرنسى بينه وتشكيل جيش مكسيكى لا ولاء له إلا وطنه المكسيك.

وبالفعل يشعر الإمبراطور الشاب بالخطر، فتقرر زوجه الشابة العودة إلى أوروبا ومناشدة الإمبراطور نابليون الثالث وزوجه أوينى أن يلتزما بما وقع عليه الإمبراطور من وجود الجيش الفرنسى حماية للإمبراطورية الوليدة. لكنها تواجه بالصد والرفض، فيجن جنونها خوفا على زوجها وعلى أحلامها فى إمبراطورية وليدة يزرعانها فى أرض جديدة بأحلام جديدة. وتضطرب نفسيتها المرهفة اضطرابا شديدا، فتسقط أسيرة للهواجس والكوابيس، وتصل إلى حافة الاضطراب النفسى الذى يفضى إلى الجنون، وفى ذروة من ذرى الهذيان لا تجد سوى عبدها الأسود العاصى الذى تشعر بالحاجة إليه كى يعيد التوازن إلى نفسها المضطربة، فتجبره على أن يواقعها، وفى الصباح تطرده، وتذهب إلى البابا فى حالة من الهذيان متخيلة أن عيون زوج أخيها ملك النمسا تحاصرها أينما تذهب، وتعود محبطة من عند البابا إلى قصرها «ميرامار». وتواقع العاصى مرة ثانية بعد أن فقدت قدرتها العقلية تماما، وهى فى حال بين فقدان الوعى وغياب العقل، وينتهى الأمر بجنونها التام، فيصحبها أخوها إلى عائلتها الملكية كى تتولى علاجها. ولكن هذه العائلة تكتشف أنها حامل من العبد الأسود، فيقومون بإجهاضها كى يتخلصوا من هذا العار.

وليس من الضرورى أن نتصور العلاقة الجنسية بينها والعاصى على أنها فعل واقعي، وإنما هى نوع من مبدأ الرغبة الذى يتفجر تعويضا عن الإحباط الشديد فى مبدأ الواقع، كما لو كانت الإمبراطورة الشابة تدرك أنها فى حاجة إلى أن تحصل ـ على المستوى الرمزى على قوة جديدة تعيد إليها الحياة والتجدد بواسطة جندى أسود يمتلئ بالحيوية والشباب والخصوبة التى ترمز إليها إفريقيا التى تخلو من أمراض أوروبا العجوز. وتبقى الإمبراطورة بعد إجهاضها حبيسة فى غرفة بقصر أخيها، أما زوجها الإمبراطور ماكسميليان فينتهى الأمر به بعد رحيل الجنود الفرنسيين إلى الهزيمة الساحقة أمام الأعداد الهائلة من الثوار الجمهوريين الذين يقودهم بنيتو خواريز بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية وينفض عنه الجميع فلا تبقى سوى الهزيمة والقبض عليه وإعدامه. ويحاول شقيقه إمبراطور النمسا استعادة جثمانه فلا يوافق خواريز على ذلك إلا بعد أن تعترف النمسا بالدولة المكسيكية الجمهورية.

مأساة حقيقية لإمبراطور شاب وإمبراطورة شابة كانا ضحية لأطماع استعمارية استغلت شعوب الأرض المقهورة لزمن طويل. وأجمل ما تفعله رواية المنسى قنديل أنها تكشف عن الجانب الوحشى فى هذه الأطماع التى لم تراع شيئا سوى نهب الشعوب المستعمرة دون اعتبار لكل القيم الإنسانية والمثل التى ظلت تتشدق بها أوروبا الاستعمارية. وفى هذا يكمن مغزى أهمية الرواية وموقعها فى خطاب ما بعد الاستعمار، ذلك الخطاب الذى يقوم بتعرية أيديولوجيا الاستعمار الاستيطاني. وهى الإيديولوجيا التى تفصح عنها الإمبراطورة عندما تقول لزوجها: «أنت يا حبيبى لست مجرد إمبراطور، أنت رسول الحضارة الأوروبية لتنقذ هذا البلد وتعيد بناءه. لا يمكن أن تعود لأوروبا حيث لا يوجد أحد يحتاج إلى الحضارة أو البناء، لا يمكن أن نعود مهزومين بينما هذا البلد المسكين فى حاجة إلينا».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف