محمد ابو الفضل
جهة رسمية للرد على المغالطات
لم تعد الحرب بمعناها التقليدى تحتل مكانا كبيرا فى معارك تكسير العظام بين الدول، لأن السنوات الماضية كشفت لنا عن أنواع مختلفة من الحروب، تندرج تحت مسمى الجيل الرابع والخامس، وغيرها من التصنيفات المتعددة، ومعظمها تعتمد على الوسائل التكنولوجية الحديثة، التى نجحت فى أن تتسرب وتنتشر وتؤثر على بعض القرارات والمواقف السياسية.
هذا الجيل من الحروب يصعب تجاهله، لأنه أوجد لنفسه مكانا فى كثير من المظاهر التى نحياها، فيكفى أحدهم أن يجتزئ جانبا من كلامك ليجعلك، كذابا أو منافقا أو حتى أراجوزا، وربما جميعهم فى آن واحد، ويكفى أن يطلق آخر شائعة تنتشر كالنار فى الهشيم، وعندما تتحرك وتبادر بالإطفاء، تحتاج إلى وقت وجهد كبيرين، فمطلوب محو العار الذى لحق بك أولا، ثم إعادة تصحيح الصورة.
الفترة الماضية شهدت سيولا من المعلومات المغلوطة، والبيانات التى تحتاج لمزيد من التوضيح، وبدت الشائعات منهجا لتوسيع نطاق الارتباك فى ربوع الدولة، على المستوى الرسمى والشعبي، وأصبح اللغط منهجا منظما، ولم تستطع أى جهة ملاحقته، لأن من يقفون خلفه يتحركون بسرعة شديدة كالبرق، ومن يطاردونه يجرون وراءه مثل السلحفاة.
لقد تراكمت مجموعة كبيرة من الأحداث والتطورات، خارجيا وداخليا، مست جميعها مناطق ضمن عصب الدولة، وكشفت عن عجز فاضح فى بنيان بعض المؤسسات، فضلا عن غياب الرؤية، والافتقار للحكمة والحنكة، حيث أصبح المجال مفتوحا على مصراعيه لزيادة جرعات الافتراءات التى لها علاقة بقضايا جوهرية تتعلق بصميم الأمن القومي، بعد أن تيقن أصحابها أنه لا حياة لمن تنادي.
على المستوى الخارجي، بثت وكالة رويترز للأنباء أمس الأول الثلاثاء خبرا، يشتم من رائحته للوهلة الأولى أنه غير دقيق، وغرضه تخريب علاقات مصر مع إيطاليا، حيث تداخلت فيه المصادر المعلومة مع المجهولة، مع أخرى مثيرة للجاذبية بصورة واضحة، مفاده أن الدكتور هشام عبدالحميد رئيس الطب الشرعى ألمح أمام النيابة إلى أن الأمن المصرى يقف خلف مصرع الشاب الإيطالى ريجينى الذى وجدت على جثته آثار تعذيب استمر أياما عدة، والذى ربطت الحكومة الإيطالية مصير علاقتها مع مصر، بمعرفة الجهة التى ارتكبت الجريمة.
طار الخبر إلى كثير من المواقع الاليكترونية، ولف العالم بسرعة متناهية، ولم يقف الجميع للتدقيق فى منطق الكلام، ولم تبادر الجهات الرسمية بدحض الافتراء سريعا، مع أن الدكتور عبدالحميد لم يدل بأقواله أصلا أمام النيابة، وزعمت الوكالة عندما حاولت الاتصال به أنه لم يرد عليها.
قبل هذا الخبر بأيام نشرت جريدة الجارديان البريطانية تقريرا عن سوء الأجواء أمام الحريات فى مصر، واستندت إلى معلومات متناثرة غير مترابطة لكنها حقيقية، وقدمتها فى سياق يوحى بأن مصر تعيش مذبحة ممنهجة للحريات، ومع أن المصدر الذى استندت عليه الصحيفة أكد لاحقا أن 70 فى المائة من المعلومات التى حواها التقرير غير دقيقة، إلا أن صوته لم يلتفت إليه أحد، وظل موضوع الجارديان يتنقل من مكان لآخر، دون أن تتولى جهة رسمية الرد على ما حواه من مغالطات.
خذ أيضا القضية المثيرة للجدل التى أثيرت، عقب زيارة وفد حزب الله اللبنانى للقاهرة، لتقديم واجب العزاء فى الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل، حيث نسجت عليه بعض وسائل الإعلام قصصا كثيرة، تدور حول قيام الأعضاء الثلاثة للوفد بعقد لقاء سرى مع جهات مصرية سيادية، ولأنه لم يتقدم مسئول بنفى ذلك، جرى استغلال الزيارة لضرب العلاقات بين مصر والسعودية فى مقتل، عندما تم تصوير المشهد على أن اللقاء المزعوم يعنى تخلى القاهرة عن الرياض، فى وقت تزايدت فيه خلافات الأخيرة مع لبنان، بسبب توجهات حزب الله وعلاقته المريبة بإيران.
مضى السيناريو فى طريقه، حتى أن أحد الكتاب العرب نسج من خياله مقالا أوحى فيه بسوء التقديرات المصرية، منوها إلى جرائم ارتكبها أعضاء تابعون للحزب فى مصر، كل ذلك انتشر ولم يتقدم شخص لنفى حدوث لقاء بين وفد حزب الله وأى جهة رسمية، وبدا الأمر كأنه بعيد عنا، وفسر الصمت على أنه حقيقة.
على الصعيد المحلي، حدث ولا حرج، فقد تزايد توظيف الأخطاء بطريقة مثيرة للغضب، وتم استغلال بعض الوقائع بشكل يدل على ارتفاع حجم التربص، وتصيد الفرص، التى تؤكد أن هناك ارتباكا فى الجهاز الإدارى للدولة، فمن حكاية الطفل صاحب السنوات الأربع الذى حكم عليه بالسجن، إلى قصة السجادة الحمراء، وحتى قصص عكاشة والسفير الإسرائيلي، لم نجد جهة تسارع على الفور لتفنيد كل ما يتردد حول هذه الموضوعات، وإن وجدت فى حالة الطفل والسجادة مثلا، كان الرد متأخرا، بعد أن أضحى عدد كبير من المواطنين مقتنعا بالانطباعات التى ترسخت فى ذهنه أولا.
ومع أن عكاشة، أشار صراحة إلى موافقة جهات رسمية على اللقاء، وحاول توريطها، غير أن أحدا لم يتقدم للرد عليه، ودخلت القضية الجادة مجال المهاترات، لذلك المسألة لا تحتمل رفاهة التلكؤ والانتظار، بل تستوجب الإمساك بزمام المبادرة، لأنه معروف أن الصورة الذهنية الأولى تدوم أكثر، فما بالنا إذا لم يتم الرد عليها، أو جاء الرد متأخرا؟.
من الضرورى تغيير الطريقة التى يتم التعامل بها مع المعلومات والشائعات التى تنهال على رءوسنا جميعا ليلا ونهارا، بغرض زيادة مساحة اللغط، والسعى إلى هدم الدولة، التى فشلت فى النيل منها جحافل الإرهاب، ويجب ألا تأخذنا العزة بالإثم، ونستهين بما يدور حولنا وهو فى صميم أمننا، ونردد المقولة الساذجة »دع القافلة تسير والكلاب تنبح«، فقد أصبح النباح خطرا، ليس لأنه يضاعف الشوشرة، لكن لأنك إذا تركت الكلب ينبح دون أن ترده أو تصده، سيتجرأ ويبادر بالهجوم عليك.
مطلوب جهة رسمية، مهمتها الأساسية الرد على ما يتردد من بيانات ملتبسة أو شائعات مغلفة بقدر من الوقائع الحقيقية، فى الداخل والخارج، جهة مجهزة علميا تتوافر لها جميع المعلومات الصحيحة، ولها صلاحيات مطلقة لتفنيد المغالطات أولا بأول، قبل أن تتضخم وتتحول إلى كرة لهب، قد تصعب السيطرة عليها.