بعد ساعتين من النقاش انتهى أخيراً اجتماع المجلة الأسبوعى وخرج جميع الزملاء فيما عدا الصحفى المتميز هانى فاروق الذى انتظر ليسألنى عن ملحق الأستاذ حسنين هيكل الذى طرحنا عمله فى الاجتماع الماضى، وقال إنه يتمنى أن تسمح الفرصة لأبناء جيلنا بإجراء حوار معه مثلما فعل أساتذتنا وطلب منى أن أحاول أنا فربما يستجيب، فوعدته أن أحاول وأنا أعلم جيدا أن اللقاء مع الأستاذ ليس له علاقة بالمناصب فربما يلتقى بشابة أو شاب مبتدئ ولا يلتقى بمن هو فى منصب كبير، وهو ما شاهدته بنفسى عندما وجدته يسلم نفسه لعدسة الطالبة الجامعية شيماء والتى كانت تتدرب بالمجلة ولكنها كانت فتاة موهوبة ويبدو أنه لمح فيها الإبداع فسمح لها أن تلتقط له صورا فنية رائعة، لقاء الأستاذ يحتاج إلى قدر كبير من حسن الحظ لأنه من الصعب اختراق جدول حياته المنظم هذا ما كنت أعرفه أو ما كنت أظنه حتى رن جرس التليفون الداخلى بالمكتب بعد خروج هانى بأقل من خمس عشرة دقيقة فى مصادفة يندر أن تحدث لأجد السكرتير يقول لى مكتب الأستاذ حسنين هيكل، يريدك رفعت السماعة وأنا أحاول أن أخمن سبب الاتصال، وجدت مدير مكتبه على السماعة يقول: الأستاذ معك، انتشلتنى كلماته المرحبة من ارتباكى وحيرتى وهو يقول أهلا بك وأثنى على المجلة وقال إنها إحدى المجلات العزيزة عليه تحدثنا لعدة دقائق ولكنها لم تشبع شغفى ورغبتى فى الحديث معه فطلبت منه أن يسمح لى بزيارته يوما فقال لى أهلًا بك. غداً الساعة العاشرة والنصف صباحا بالمكتب، وأغلق التليفون، لم أفهم أين اللقاء ببرقاش أم بمكتبه على النيل وبعد السؤال علمت أنه يقيم آنذاك فى الجيزة، نزلت قبل الموعد بما يزيد عن الساعة وأنا أمنى نفسى أن أقف على بابه قبل الموعد لما أعلم عنه من التزام شديد بالوقت، ولكن الساعة دقت العاشرة والنصف وأنا عالقة بالسيارة فى زحام خانق قبل منزله بعشرات الأمتار فتركت السيارة وأنا أسرع فى خطواتى وأنا أعنف نفسى أهكذا يكون أول لقاء لى معه وجها لوجه، حقا لم تكن هذه هى المرة الأولى التى ألتقى فيها الأستاذ فسبق أن رأيته عدة مرات أثناء حضوره معارض فنية أو أثناء لقاءات معه فى الأهرام بعد ثورة ٢٥يناير كان آخرها قبل أشهر قليلة من هذا اليوم عندما رفض أن يترأس مركز استشراف مستقبل مصر والذى طالب بإنشائه وانبرى بعض الحضور يطالبه بأن يكون على رأسه فقال أنا زمانى قد فات والأولى به شباب هذا الزمان بما لديهم من إمكانات وفكر يناسب زمانهم، وصلت أخيراً أمام باب الشقة وأنا لا أدرى كيف سيكون استقباله بعد تأخير لخمس عشرة دقيقة استقبلنى مدير المكتب وأدخلنى إلى مكتبه المطل على النيل،جلست على الأريكة ألتقط أنفاسى ليدخل على الأستاذ بعد دقائق مرحبا، وعندما بدأت فى الاعتذار عن التأخير أشار لى بيده بعلامة المقدر للأمور وهو يقول: أعلم جيدا ازدحام الطرق لذا فإننى عندما كنت على موعد مع الرئيس قبل عدة أيام ذهبت قبل الموعد بساعتين، فهمت سريعا عتابه الرقيق والراقى فى نفس الوقت، قال لى مجلتكم عزيزة على قلبى وخصوصا مؤسستها الصديقة العزيزة سناء البيسى، كنت أدرك ذلك جيدا فالأستاذ فى إطار ضمه للمبدعين من كل مكان قام بضم الأستاذة سناء البيسى من الأخبار للأهرام، وهى على الجانب الآخر كانت من أول من نشر بالمجلة حوارات للأستاذ فى التسعينيات قبل ظهور الفضائيات والصحف الخاصة، رغم أنه كان معروفا أن هيكل له آراء كثيرة معارضة للنظام آنذاك، ولكن حوارها كان إنسانيا ربما لم يتكرر كثيرا مع الأستاذ حتى فى حواراته الأخرى بالمجلة سواء التى أجراها معه الفنان نور الشريف أو تلك التى قام بها الكاتب الصحفى مفيد فوزى (نعيد نشر هذا الحوار كاملا بالعدد).
فوجئت بأن الأستاذ لا يجلس على كرسى المكتب وإنما جلس بجانبى على الأريكة وكان هو من بدأ السؤال وكانت أسئلته منصبة على طبيعة العمل بالمجلة وانتقل للحديث عن الأهرام واستفسر عن أمور عديدة وكأنه قد ترك الأهرام البارحة وليس قبل 42عاما، كان متوقد الذهن شديد التركيز فى كل كلمة أقولها، فى معرض حديثى قلت له إنى عملت فى فترة من حياتى محررة عسكرية وكنت متأثرة آنذاك بتجربته وكذلك بتجربة روبرت فيسك، فقال لى باسما: ده انت تخوفى يا ترى أسامة عامل إيه معاكى فى البيت، فقلت له: هل ترفض زواج أبناء المهنة الواحدة، فقال لى يصعب أن نطبق قاعدة واحدة على الزواج فكل قصة زواج هى تجربة قائمة بذاتها،فهدايت على سبيل المثال لعبت دورا أساسيا فى نجاحى ونجاح أولادى لا أتصور أنه كان يمكن أن تقوم به أى امرأة أخرى أو لو كانت هى شخصية أخرى.قلت له: فهمت أنك لم تكن تفضل أن تكون صحفية وماذا عن الأبناء هل أبعدتهم عن قصد عن الصحافة، قال: لم أمنعهم ولكنى أشفقت عليهم أن يظلموا فلا ينسب نجاحهم لأنفسهم وإنما يرجعه البعض لأنهم أبنائى أو يدخلهم البعض فى مقارنات غير سليمة أو منصفة كما حدث مع عدد من الكتاب الكبار وأبنائهم مثل المازنى وابنه، وأنا سعيد بنجاح أبنائى فى عملهم ولكنى أرى موهبة الكتابة فى الحفيدات، قلت له أحد الزملاء ذكر لى أنك نصحته بالكتابة كل يوم فهل أنت تلتزم بهذه المقولة حتى بعد أن استأذنت القراء فى التوقف عن الكتابة، قال أنا أكتب يوميا فلم أتوقف عن تأليف الكتب، قلت للأستاذ: لمن تقرأ؟قال أحرص على الاطلاع على أهم الكتب التى تصدر فى مصر والعالم وبالطبع تستغرق القراءة منى ساعات كل يوم، قلت له هذه إجابة دبلوماسية حتى لا تقول أسماء بعينها،لذا دعنى أقل من هم الكتاب المفضلون لك، قال كل من حرصت على ضمهم للأهرام كنت أحب القراءة لهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وحسين فوزى وبنت الشاطئ وغيرهم، قلت له: ما حجم الخسارة فى الكتب والوئاثق بعد حريق برقاش،بدا على وجهه التأثر وهو يقول حرق ما يزيد عن خمسة عشر ألف كتاب بخلاف وثائق نادرة، أضاف قائلا: لا أنا ولا هدايت صرنا نريد الذهاب إلى هناك بعد هذا الحريق، قلت له: ما أهم ما تنصح به الرئيس السيسى قال لى: وضوح الرؤية لابد وأن تكون هناك رؤية لما نريد أن نصل إليه مبنية على تقييم حقيقى ومعطيات واضحة، قلت له: البعض يشبه السيسى بعبدالناصر والبعض الآخر يشبهه بالسادات فما هو تقييمك، قال: لا أعتقد أنه يشبه أيا منهما ولكنها رغبة البعض فى الاستنساخ كنوع من الحنين للماضى ولكن الماضى بالطبع لايعود وإنما علينا أن نتعلم منه دون أن نقلده، تطرق الحديث الى أمور عديدة علاقته بوالدته، إتقانه للإنجليزية بعض المواقف التى لا ينساها مع رؤساء، موقفه من الإخوان، أمور عديدة ربما يكون قد تطرق إليها فى أحاديث أخرى ولكننى أذكر جيدا سؤالا قلت له: على أى شىء يحرص الأستاذ ومم يخاف؟
قال أحرص على أن يكون عقلى دائما متيقظا ولا أخشى سوى المرض الذى يكون به رقاد طويل يؤثر على هذا التوقظ أما الموت فلا أخشاه بل استعددت له بوصية كتبتها منذ قرابة العشرين عاما، نظرت آنذاك فى الساعة ووجدت أنها قد تعدت الثانية والنصف لم أصدق كيف مرت أربع ساعات دون أن أشعر وأنا فى صحبة الأستاذ، كان لابد من الرحيل حتى أتركه لموعد الغداء، فخرج بكل تواضع ليوصلنى إلى الباب وفى الطريق وجدت عددا هائلا من الصور معلقا على أحد حوائط الردهة، وقف يذكر لى مناسبة كل صورة والضيف الذى كان يصحبه فيها، وقال لى إنه كان يحرص على أن يحضر للأهرام أكبر الأدباء والسياسيين فى العالم ثم أشار إلى جهة اليمين وقال: وهذا هو الطريق إلى هدايت والأسرة قلت له: أتمنى أن أقتحم يوما هذا العالم، قال وهو يبتسم: الاقتحام كلمة كبيرة ولكن من يدرى؟ ربما تسمح الظروف بهذه الزيارة قلت له وأنا أبتسم: هذا درس جديد من الأستاذ سأنتظر حتى تسمح لى بزيارة خاصة للبيت، ودعنى قائلا: بإذن الله، لكن هذا لم يحدث للأسف ولم يكتب للملف الذى كنا ننوى عمله عن الأستاذ أن يكتمل.
ونحن نودع اليوم كاتبنا الكبير الذى غيبه الموت بعد صراع مع المرض لم يدم سوى أيام قليلة، كما كان يتمنى نقوم بإعادة نشر حواره مع الكاتبة الكبيرة سناء البيسى ومقتطفات من حوارات أخرى مع الكاتب مفيد فوزى نشرت فى إحدى عشرة حلقة بالمجلة وعدد من الصور النادرة له من أرشيف نصف الدنيا وذلك إهداء منا لمحبى الأستاذ وتلاميذه.