أشعر ـ في أحيان كثيرة. وحتي الآن ـ بأن ذهني مزدحم بعشرات الرؤي والصور والوقائع والذكريات التي تحرضني علي تسجيلها. علي كتابتها في صورة إبداعية. أو في سيرة ذاتية. وان كانت البداية ـ في الأغلب ـ شخصية عابرة. أو حدثا بسيطا. الشخصية التي أعرض لها بأسلوب الحافر علي الحافر ـ في تعبير اللغويين ـ أولي بها سيرة ذاتية. أو ترجمة. لهذه الشخصية. قد أستقي الشخصية التي أتناولها في قصة أو رواية لي. من أحد الأقارب أو الأصدقاء. لكنني لا أصور الشخصية كما عرفتها. وانما كما تكتبها الرواية أو القصة. تختلط الملامح التي أعرفها بملامح الشخصية الفنية. ثمة شخصيات أميل الي الكتابة عنها بمجرد رؤيتها. كتلك السيدة التي رأيتها في محطة الترام. وهي تحمل حاجيات بيتها. لم تفارق ذهني حتي كتبت عنها ـ بعد عشرات الأعوام ـ في تبقيعاتي النثرية "مد الموج".
اذا أردت تصور مشهدا مكانيا. فإني ألجأ الي الورقة والقلم. أرسم المشهد بكل تفصيلاته. بحيث يعينني علي التصور في أثناء الكتابة. ذلك ما فعلته عندما تهيأت لروايتي "قلعة الجبل". كانت عائشة عبدالرحمن القفاص تسكن حدرة الحنة. ذهبت الي شارع الجاولي الذي تشير الكتب الي تفرع الحدرة عنه. عرفت انها تلاشت بتوالي السنين. لكن "الجودرية" ظلت قائمة. ربما لأن المسافة الزمنية قريبة من الحملة الفرنسية. ومساكن بيت الجودرية الشيخ جليل البكري. وابنته زينب. ذلك أيضا ما فعلته في العديدمن فصول "رباعية بحري": قلعة قايتباي. حلقة السمك. قصر رأس التين. جامع أبو العباس. بيت المسافرخانة. قصر أم البحرية. متحف الأحياء المائية. وأماكن أخري.
أذكر اني ترددت ـ مرات كثيرة ـ علي القهوة التجارية. استوعب قسمات المكان الذي كان له دور البطولة في روايتي "المينا الشرقية". وصحبت صديقي الدكتور محمد زكريا عناني الي شارع صفر باشا. ملنا الي شارع جانبي هو أحمد كشك. لأقرن الصور التي أتذكرها في مقام سيدي منصور. في جانب الشارع. بما هو قائم. وطالت جولاتي في شارع محمد علي. وما يتفرع عنه من شوارع وحارات ودروب. أتأمل. أحدق. أسأل. أسجل. أتصور العالم الذي سيكون نبضا لروايتي "سكة المناصرة".
القول بأن الكلمة الأولي في "النص" يجب أن تكتب وعين الفنان علي النهاية. يحتاج ـ بالنسبة لي في الأقل ـ الي مراجعة. ذلك لأني أحرص أن يكتب العمل الابداعي نفسه. بصرف النظر عن نوع ذلك العمل. لعلي أذكرك بأن مبعث إقدام فوكنر علي كتابة روايته "الصخب والعنف" رؤيته ـ وهو يقود سيارته في الجنوب الأمريكي ـ فتاة صغيرة تركب مرجيحة في حديقة بيتها. وكتب جارثيا ماركيث قصته "قيلولة الثلاثاء" بعد أن شاهد سيدة وطفلة يرتديان ثيابا سوداء. وتحمل كل منهما مظلة سوداء. وتسيران في الصحراء تحت شمس لاهبة.
أنا لا أضع ملفات مثلما كان يفعل نجيب محفوظ ـ علي سبيل المثال ـ وما يفعله أدباء آخرون. لورانس بلوك يلح في ضرورة التخطيط للرواية. قبل أن يبدأ الفنان كتابتها. وأن تنمو ـ طيلة كتابة المؤلف لها "كما تنمو الحبكة". لكنه يدعو ـ أيضا ـ لأن تنمو الرواية نموا طبيعيا من واقع ما يكتب. بدلا من ارتباطها ببيئة هيكلية. "مثل من ينصب تعريشة لأجمل الورد البلدي". لا أضع ـ في الوقت نفسه ـ مخططا عاما. لا أرسم الملامح الظاهرةأو الجوانية للشخصيات. ولا أتقصي ماضيها. ولا أخطط للأحداث التي أضمنها السرد. ولا حتي التقنية التي ربما ألجأ اليها. وما اذا كنت سأكتب بصوت الكاتب الذي يعرف كل شيء. أم بصوت الراوي المخاطب. أم الراوي المشارك. أم أكتب بصوت الجماعة. أم ألجأ الي تقنية تعدد الأصوات. أم ألجأ الي المونولوج الداخلي؟