كمال الهلباوى
حكايات من تاريخ الانتقام المتبادل بين الشيعة والسُنة
>>والٍ سنى أمر بعقاب أهل قم الفارسية لأنهم لا يسمون عمر أو أبوبكر
>>الفاطميون عزلوا السُنة من المناصب الحكومية وحبسوا قاضى القضاة لرفضه إمامة على
المذاهب الإسلامية كلها عند أهل السُنة، أو الشيعة، أو غيرها من المذاهب الصحيحة غير المنحرفة، هى مذاهب للتعبد الصحيح، حسب اجتهادات أئمة المذاهب وفقهائهم، ولا يضر المسلم المجتهد أن يتعبد لله تعالى دون تمذهب ولا تعصب لأى من المذاهب.
وقد ذكرنا فى الحلقة الأولى، بعض ما قاله الأستاذ الدكتور الشكعة فى هذا الإطار فى كتابه العظيم «إسلام بلا مذاهب» ونواصل هنا بقية الحديث.
يقول الرجل: «على أن بعض الشيعة أنفسهم كانوا مسئولين عما يصيبهم من الأذى فى بعض الأحيان لإظهار تعصبهم ضد الصحابة الكرام ولعنهم جهارًا، الأمر الذى كان يثير عليهم جمهور المسلمين، ففى أحداث سنة 345 هـ قامت فتنة كبيرة فى أصبهان- وكان سكانها سنيين- لأن رجلًا من أهالى «قم» – وهم شيعة غلاة – قد سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع كثير من القتلى، ونهب أموال التجار من أهل «قم».
وإذا كانت حوادث الشيعة كلها تتخذ هذا الطابع الدامى الحزين، فإن هناك حوادث لم تكن تخلو من طرافة، برغم أن سببها التعصب، فقد حدث أن تولى أمر «قم» والٍ جديد، وكان الوالى سنيَّا متشددًا، وكان أهالى «قم» شيعة غلاة، فبلغه أن القميين لشدة بغضهم للصحابة لا يوجد بينهم من اسمه أبو بكر أو عمر، فجمعهم يومًا وقال لهم: بلغنى أنكم تبغضون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنكم لشدة بغضكم لهم لا تسمون أولادكم بأسمائهم، وأنا أقسم بالله العظيم لئن لم تجيئونى برجل منكم أبو بكر أو عمر، ويثبت عندى أنه اسمه، لأفعلن بكم ولأصنعن، فاستمهلوه ثلاثة أيام، وفتشوا فى المدينة فلم يعثروا إلا برجل صعلوك حافى القدمين عارى الجسم أحول، أقبح خلق الله منظرًا، اسمه أبو بكر، لأن أباه كان غريبًا واستوطن البلدة، وجاءوا به للوالى، فما أن رآه حتى شتمهم وقال: جئتمونى بأقبح خلق الله تتنادرون عَلَىَّ، وأمر بصفعهم، فقال له بعض ظرفائهم أيها الأمير اصنع ما شئت، فإن هواء قم» لا يجئ منه من اسمه أبو بكر أحسن من هذا. فغلبه الضحك وعفا عنهم.
ويقال إن «قم» هذه كان يسكنها قوم من الغلاة هم الغرابية، ومذهبهم أن المال كله للبنت، فلما ولى أمرهم قاضٍ حكم للبنت بالنصف هددوه بالقتل، وإنما يحكمون للبنت بكل المال تكريمًا للسيدة فاطمة الزهراء.
على أن الشيعة لم يكونوا المعتدى عليهم بصفة دائمة فكثيرًا ما كانوا المعتدون، خصوصًا إذا كانت الأمور فى يد دولة شيعية كالبهويين أو الفاطميين، أو حيث يكثر تجمعهم، فلم يكن إنسان يستطيع أن يذكر الصحابة بالخير فى بعض الأزمنة فى الكوفة، لأن مصيره يكون القتل السريع، ولذلك قيل: من أراد الشهادة فليدخل دار البطيخ «بالكوفة» وليقل رحم الله عثمان.
ثم يواصل الدكتور الشكعة حديثه فيقول: «وكان فى القيروان قاض سنى اسمه أبو سعيد، فاستدعاه داعى الدعاة الفاطمى وطلب إليه أن يعتنق المذهب الشيعى، فرفض القاضى قائلًا: لو نشرتنى إلى اثنين ما فارقت مذهب مالك، فأمر به داعى الدعاة فقطع لسانه.
وكان البويهيون لتعصبهم للتشيع يكرهون أهل السنة، وكثيرًا ما أوقع معز الدولة البويهى الأذى بالخلفاء من قتل أو سمل عيونهم لا لشىء إلا أنهم سنيون.
على أن أكثر ما حل بأهل السنة، من أذَّى كان على يد الشيعة من الفاطميين، فقد ضرب رجل فى مصر وطيف به القاهرة لأنهم وجدوا عنده الموطأ للإمام مالك، وأمر الحاكم بأمر الله نائبه بدمشق بعقاب رجل مغربى ضُرب وطيف به على حماره ونودى هذا جزاء من أحب أبا بكر وعمر، وبعد انتهاء الطواف ضربت عنقه.
وقد بالغ الفاطميون فى إيذاء أهل السُنة، فعزلوا كل السنيين من المناصب الحكومية، وحبسوا قاضى القضاة لأنه رفض أن يعترف بإمامة على، وسبوا الصحابة والخلفاء الراشدين بكتابات منقوشة على جدران المساجد وفى الشوارع، ولعنوا أهل السُنة على المنابر، إلى غير ذلك من أصناف الأذى التى أريق بسببها الدماء حينًا أو حل الأذى والتحقير مكان الدماء حينًا آخر.
ولم يقف أمر الخلاف الدامى بين المسلمين على السُنة والشيعة وحدهم، بل إنه جرى بين المعتزلة والسُنة أيضًا، ولعلنا مازلنا نذكر فتنة خلق القرآن، فقد أوقع المعتزلة بمساعدة بعض الخلفاء العباسيين – كالمأمون والمعتصم- الأذى والضر والقتل، ببعض أهل السُنة ممن رفضوا القول بخلق القرآن، على ما مر بنا عند الحديث عن المعتزلة.
ولعل أيادٍ خفية كانت حريصة على إذكاء نار الفتنة بين المسلمين، حتى بين أبناء الطائفة الواحدة، فقد جرت خلافات ومصادمات بين أهل السُنة بعضهم وبعض، ولقد كان الحنابلة (أنصار أحمد بن حنبل) على رأس المعتدين دائمًا، واشتهروا بالعنف فى معاملة خصومهم من أبناء المذهب الشافعى، فقد ثاروا عليهم وألحقوا بهم الاعتداء، وأرادوا أن يجعلوا لأنفسهم مركزًا حصينًا ينقضون منه على خصومهم، فبنوا مسجدًا فى بغداد جعلوا منه وكرًا للمشاغبة، واستعانوا بفريق من العميان مسلحين بالهراوات كان يطلقونهم على الشوافع (أتباع المذهب الشافعى) فيوسعونهم ضربًا حتى يشرفوا على الموت.
وبلغ الأمر بالحنابلة وعنف خصومتهم، أن منعوا دفن ابن جرير الطبرى، فاضطر أصحابه أن يدفنوه فى داره ليلًا، فقد استعانوا بالعامة فى ذلك، لا لشىء إلا أن الطبرى لم يعترف بابن حنبل كفقيه واعتبره محدثًا ليس غير، وكان ابن جرير قد أسس مذهبًا خاصًَا، وكان صاحب علم وفضل».
انتهى كلام الدكتور الشكعة. وأقول هذا من التاريخ المؤسف فى التمذهب، ومن الصراع الدامى بين المتعصبين للمذاهب ولو أنهم جميعًا اقتنعوا بأن «كل شخص يؤخذ من قوله ويترك، لما وقع كل ذلك، ولما أضاع المسلمون أوقاتهم، وأسالوا دماء بعض، والإسلام من كل ذلك براء.
ولعلنا نتعظ اليوم فلا نترك الفتنة تشتعل، بين السنة والشيعة أو بين المسلمين والمسيحيين، تضيَّع علينا جمال الوحدة والتسامح. بل وقيم الإسلام العظيمة. والله الموفق