امال عثمان
وداعاً سيد شهداء دفعة الأبطال!! (6)
تناثرت أشلاء الكلمات وأنا أتابع سطور كتاب مفعم بقصص البطولة والتضحية والفداء، وأرصد حكايات أبطال غير قابلين للمحو من دفتر الوجود، وتفجّرت ينابيع الأحزان وأنا أستعيد تفاصيل لحظات قاسية لا يمكن أن يبددها الزمن، وأحداث اكتنفتها ظلال من الوحشية والرعب السرمدى، وأسترجع شخوص رحلة عظيمة عكست واقعاً مؤلماً، خلّفه إرهاب بشر غلاظ الأكباد، استحكم البغض فى نفوسهم، وظنوا أنهم يمثلون الله على الأرض!!
منحت نفسى تأشيرة عودة إلى أوراقى لأكتب الفصل الأخير من قصة حياة بطل رفض الاستسلام والامتثال لجروحه وآلامه، وأبى الخضوع والانصياع لنفوس مسكونة بالشر والكراهية، وخاض وحده غمار تلك اللحظة الحاسمة بشجاعة، أفسدت على القتَلة طقوس محاكمة لا ظل للعدل فيها، ومشاهد ذبح مسرحية رزح الوطن العربى تحت وطأتها، وتحدى بكبرياء وشمم ذلك الزيف والشطط العقلى لهؤلاء الإرهابيين الموتورين، لصوص الأوطان وتجار الدين الذين يقيمون عذاب الله على الأرض فى معقل الآثام!
وضعت على رأس قائمة أولوياتها استكمال المهمة التى بدأها زوجها الشهيد حسام شرف الدين، ونشر كتابه عن شهداء دفعته، ليكون هديته لشهداء دفعة أسد البحار، وبدأت فى استكمال صفحات الكتاب، وتسرد تفاصيل القصة التى رواها المجند ناجى فكرى عن زوجها، سيد شهداء الدفعة 103 حربية، هذا البطل الذى أنقذ حياته ووقف صامداً أمام طلقات الإرهابيين التى انهمرت عليه من كل مكان، وراح يبادلهم تراشق النيران ويقفز على رجله السليمة ويطلق الأعيرة فى جميع الاتجاهات، حتى ظنوا أنهم يحاربون مجموعة مسلحة من الجنود. وسمع ناجى من داخل مخبئه قائد المجموعة الإرهابية يتحدث عبر جهاز لاسلكى قائلاً: لا أستطيع أن أعرف عددهم ولكنى لمحت ضابطاً، لا تقتلوه، أريده أسيراً نفاوض عليه ونحقق به «شو إعلامى»!!
نفذت ذخيرة النقيب حسام فرفع أحدهم رأسه يطالبه بالاستسلام، لكنه عاجله بالطلقة الأخيرة من مسدسه فأرداه قتيلاً، وبعد فترة صمت تقدم الإرهابيون فى دائرة تضيق تدريجياً، وحين شاهد أحدهم النقيب حسام أطلق عليه رصاصة أصابت ذراعه اليسرى، فصرخ قائدهم: «قلت لكم أريده حياً يا بهايم»، ثم أطبقوا عليه وأمسك به اثنان، وأقبل قائدهم ونزع عن رأسه قبّعته العسكرية وبصق على النسر الذى يتصدرها، وألقى بها على الأرض وداس عليها بقدمه قائلاً: لعنكم الله يا جيش فرعون! رد النقيب حسام وهو ينحنى بسرعة ليلتقط قبّعته وينظفها بكمّ يده المصابة: «بل نحن خير أجناد الأرض»، وقبّل النسر ودسّ القبّعة فى صدر سترته، ردّ الإرهابى وقد ملأه الغيظ: «لعلمك، هذا حديث ضعيف الإسناد، الشيخ القرضاوى قال هذا»، فردّ حسام: «موتوا بغيظكم»، فردّ عليه: سنرى من سيموت، وأمر رجاله أن يأخذوه.
كان النقيب حسام يقاوم للبقاء واقفاً بعد أن نزف كثيراً وبدا عليه الإجهاد، لاحظ أحدهم أن الإصابات بليغة فقال: «لا أظن أنه سيتحمل الرحلة عبر الأنفاق وسيموت بالطريق، أرى أن نتخلص منه هنا»، فردّ قائدهم: «خسارة، كنت أريد التفاوض عليه، لا يهم سأجعله عبرة لمن يعتبر»، ثم طلب المصورين وراح يبحث عن بقعة واسعة وزاوية مناسبة للتصوير، وتقدم أحدهم وربط يدى النقيب وراء ظهره واقتاده إلى حيث وقف المصور.
راح المجند ناجى يتابع ما يحدث وقد تمكّن منه الرعب وزلزلت الصرخات أعماقه وهو يرى الإرهابيين يرتدون الأقنعة السوداء ويصطفون مشهرين أسلحتهم، ورافعين علم «داعش» الأسود، بعدها تقدم قائدهم ووقف خلف النقيب حسام وضغط على كتفه المصابة ليجبره على الركوع، وسحب من حزامه سكيناً ورفعه، وارتفعت أصوات الآخرين بالتكبير!! بينما ظل الشهيد يردد الشهادة بنبرات قوية وصوت ثابت، تملؤه الشجاعة والإيمان والشموخ، فلطم الإرهابى رأسه ونهره قائلاً: اخرس، كيف تجرؤ على نطق شهادة المسلمين يا كافر!! ثم قبض على جبهته وأزاح رأسه إلى الخلف وهوى بالسكين فوق عنقه وذبحه، وسط التهليلات والتكبيرات!!
قبل أن أترك قلمى وأطوى آخر الصفحات، أطلت التفكير فى هؤلاء الأبطال الذين يتحدون الصعاب ويثبتون أمام المحن، وإذا انهزموا ماتوا كالأشجار وقوفاً فى شموخ على أقدامهم.
وداعاً يا زينة رجال مصر.. وزهرة الوطن.. وداعاً يا سيد شهداء دفعة الأبطال.. اللهم اجمعه وزملاءه مع الأنبياء والصديقين فى جنة الخلد.