الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
والعقبــى لنــــا!
هل صحيح أن حرية التفكير والتعبير نبتة غريبة أو بضاعة مستوردة ، كما يدعى الذين يحاربونها فى مصر، ويعتبرونها خطرا على الدين ويحرضون عامة المصريين عليها وعلى من يدافعون عنها من المثقفين وغير المثقفين؟

هذا هو السؤال الذى لم أتمكن من الإجابة عليه حين وصلت إليه فى السطور الأخيرة من مقالة الأربعاء الماضى وقد استنفدت المساحة المخصصة فلم يبق مجال أمامى لتقديم الإجابة التى خصصت لها مقالة اليوم.

وأنا أبدأ بالتمييز بين حرية التفكير والتعبير من حيث هى حق طبيعى أو فطرة انسانية وبين حرية التفكير والتعبير من حيث هى ثقافة وتاريخ ومواثيق دولية ودساتير وقوانين

أما أن حرية التفكير والتعبير حق أو فطرة فقد عرفناها كما عرفها غيرنا، وربما عرفناها قبلهم، لأن مصر هى الأفق الأول الذى بزغ فيه فجر الضمير الإنساني. والضمير الانسانى هو منبع الفكرة وأصل الحرف المنطوق والمكتوب. والحضارة التى وصلت إلى ما وصلت اليه الحضارة المصرية فى الأدب والفن والعلم والدين من فصاحة ورصانة، واقناع وإبداع ، وقدرة على تحدى الزمن وعبور العصور ـ هذه الحضارة لم تكن إلا ثمرة ناضجة للعقول الحرة والأرواح المبدعة.

يقول الشاعر المصرى القديم: حين تسأل ، لاتجعل لسانك يخالف قلبك!

ويقول: اعلم أن الفصاحة لاتقهر، وأن الكلام أمضى من الحسام!

والذى نجده فى التراث المصرى الفرعونى نجده فى التراث العربي.

حرية الاعتقاد مبدأ ثابت فى القرآن الكريم. من شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر. ولوشاء الله لجعلكم أمة واحدة. وماجعلناك عليهم حفيظا، وما أنت عليهم بوكيل . ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ؟

والقرآن إذن يكذب الذين يتاجرون باسمه ويعتبرون حرية التفكير والتعبير خطرا عليه.

ونحن ننظر فى شعر المعرى فنجده كله تمجيدا للعقل:

يرتجى الناس أن يقوم إمام

ناطق فى الكتيبة الخرساء.

كذب الظن! لا إمام سوى العقل،

مشيرا فى صبحه والمساء

فإذا اما أطعته جلب الرحمة

عند المسير والارساء

انما هذه المذاهب أسباب

لجلب الدنيا الى الرؤساء!

ولأن المعرى يثق فى العقل البشرى ويؤمن بقدرته على معرفة الحق وإدراك الصواب يعتبره نبيا وليس مجرد إمام، فالنبوة كشف، والإمامة اتباع:

أيها الغر ، إن خصصت بعقل

فاسألنه، فكل عقل نبي!

وهو يدافع عن حقه وحق الناس جميعا فى التفكير والمراجعة وفى النقد والشك، وفى الرفض والقبول :

هفت الحنيفة، والنصارى ما اهتدت

ويهود حارت، والمجوس مضللة

اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دين، وآخر ديِّن لاعقل له!

وهو يواجه أهل زمانه ويصارحهم بما يراه فيهم من عيوب ونقائص: الحكام ، والمحكومين:

مل المقام، فكم أعاشر أمة

أمرت بغير صلاحها أمراؤها

ظلموا الرعية، واستجازوا كيدها

فعدوا مصالحها وهم أجراؤها!

وهو يفضح المتاجرين بالدين، ويسخر ممن يتظاهرون بالتقوى ويقول لهم إن الدين ليس شعائر تتظاهرون بإقامتها، وإنما الدين المعاملة:

لعل أناسا فى المحاريب خوفوا

بآى كناس فى المشارب أطربوا

إذا رام كيدا بالصلاة مقيمها

فتاركها عمدا إلى الله أقرب!

والمعرى يهاجم رواة الحديث فى أيامه ـ قبل ألف عام ـ ويشك فى صحة ما يروونه من أحاديث لايقبلها العقل كما فعل اسلام بحيرى فى هذه الأيام فصودرت حريته، أما المعرى فقد بقى حرا يعبر عن رأيه ويقول:

لقد أتوا بحديث لايثبته

عقل فقلنا عن اى الناس تحكونه

فأخبروا بأسانيد لهم كذب

لم تخل من كر شيخ لايزكونه!

هل معنى هذا أن حرية التفكير والتعبير كانت مصونة أيام المعري؟

لا. ولكنها كانت دائما فطرة، وكانت نزوعا حيا وحاجة ملحة يستجيب لها الكتاب والشعراء، والمفكرون فيعبرون عما يثقل ضمائرهم ويجيش فى صدورهم، ثم يواجهون المصير الذى كان المعرى يواجهه أحيانا ويهرب منه أحيانا:

إذا قلت المحال رفعت صوتي

وإن قلت اليقين أطلت همسي!

لكن الكثيرين لم يتمكنوا من الهرب. لأن الأمراء المسلمين مثلهم مثل الأمراء المسيحيين كانوا فى حاجة لراية يرفعونها ويجعلونها ستارا للبقاء فى السلطة. وقد وجدوا هذه الراية فى الدين الذى حولوه إلى دولة يتحدثون وحدهم باسمها، ويفرضون الصمت على الجميع. ولأن الفقهاء كانوا فى حاجة للأمراء فوقفوا الى جانبهم يمدحونهم ويدعون لهم فى خطب الجمعة، ويكفرون من يفتح فمه بكلمة مخالفة، ويحرضون الغوغاء عليه . وهكذا صلب الحسين بن منصور الحلاج: شكل له الوزير العباسى محكمة من ثلاثة فقهاء قضوا بأن يضرب الف جلدة ثم تقطع أطرافه الاربعة ثم يضرب عنقه وتحرق جثته ويذرى رماده فى دجلة وتحرق كتبه. وهكذا حدث مع السهروردى المقتول. ناظر فقهاء حلب فحنقوا عليه وأوغروا صدر صلاح الدين الذى أمر ابنه الظاهر سلطان حلب بقتله فقتله.

وهكذا احدث مع ابن رشد فى قرطبة، ومع محيى الدين بن عربى فى دمشق.

والذى حدث مع المثقفين المسلمين حدث مع المثقفين المسيحيين. العالم الاسبانى سرفيتوس أعدم حرقا، والفلكى الايطالى جاليليو حوكم وهو فى السبعين من عمره لأنه اكتشف أن الأرض هى التى تدور حول الشمس وحكم عليه بالسجن وحددت اقامته مدى الحياة. أما الشاعر المتصوف جوردانو برونو فقد حاكمته الكنيسة وطالبته بالتراجع عن آرائه فأبى. وهكذا أحرق حيا فى ميدان كامبودى فيورى بروما. تلك هى ثقافة العصور الوسطى التى يبدو أننا لم نخرج منها حتى الآن. لكن الآخرين خرجوا لأنهم فصلوا بين الدين والدولة. ولأنهم حولوا الحقوق الطبيعية الى دساتير يحترمونها، وقوانين يعملون بمقتضاها والعقبى لنا!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف