الطرف الأول من أطراف «30 يونيو» الذى يعانى من أزمة يتمثل فيمن آمنوا بإحياء دولة «مبارك»، بعد إضفاء مسحة ثورية عليها بالمشاركة فى 30 يونيو. تصوَّر هؤلاء أن ركوب قطار الثورة فى محطة 30 يونيو كفيل بتمكينهم من العودة إلى ذات الممارسات القديمة، وعمّق هذا التصور لديهم قناعتهم بأن الرئيس عبدالفتاح السيسى نفسه من أبناء مؤسسات الدولة فى عصر «مبارك»، ولعلك تذكر التيمة الأساسية التى كانت تتردد فى خطاب هؤلاء طيلة الأشهر الماضية والتى تتمثل فى «الدفاع عن الدولة المصرية». وهى تيمة كانت تستدعى بالبداهة وصفاً صريحاً لثورة يناير بالمؤامرة، ولست أدرى بماذا شعرت وأنت تستمع إلى هؤلاء يتحدثون عن الثورة الحقيقية والأخرى المزيفة، والثوار الحقيقيين -يقصدون أنفسهم- والآخرين المتآمرين؟!.
ينضوى تحت لواء هذا الطرف، بعض رجال الأعمال، والإعلاميين، وكبار موظفى الدولة فى عهد «مبارك»، والساسة (حكومة ومعارضة)، ممن كانت لهم صولات وجولات فى عصر «مبارك». هؤلاء جميعاً استسلموا لإحساس بـ«العشم» فى إعادة الدولة القديمة فى ثوب جديد، بقيادة «السيسى». وواقع الحال أن أزمة هؤلاء تتحدد فى «ضعف الحساب». فلو حسبوها جيداً لعلموا أن أى سلطة جديدة غالباً ما تعتمد على نخبة جديدة من رجال الأعمال والإعلاميين والسياسيين والمسئولين، وتعزف عن الاعتماد على النخبة القديمة، لأن ديدن الحياة فى مصر أن تأتى كل سلطة جديدة بشلتها. هذا واقع الحال، وتقديرى أن الرئيس «السيسى» عبَّر عن هذا المعنى بشكل واضح خلال الانتخابات الرئاسية، عندما قال «أنا معنديش فواتير أسددها لأحد»!. وظنى أن الرسالة وصلت سريعاً إلى من يهمه الأمر، وجاء الرد عليها فى انتخابات الرئاسة التى لم تشهد الإقبال المتوقع من جانب الناخبين، لعلك تذكر أن الرئيس طالب بنزول 40 أو 50 مليون مواطن للمشاركة فى الانتخابات، لكن الأطراف التى فهمت الرسالة لم تجتهد فى الحشد.
منذ الأشهر الأولى، بدأت الاختبارات بين الطرفين، طالب الرئيس رجال الأعمال بالتبرع بـ100 مليار جنيه لصندوق تحيا مصر ويطالب بحظ إعلامى يشبه حظ «عبدالناصر»، فجاءت التبرعات قليلة على غير المتوقع، ولم يستطِع الإعلام إحياء معادلة غادرها الزمان. بدأ الرئيس يعتمد على أدواته الخاصة، ويحفر لنفسه طريقاً بعيداً عن العصر القديم، فتبنى مشروعات كبرى، أنفق فيها الكثير، لكن الشاهد الأهم فيها أنه اعتمد بالدرجة الأكبر على القوات المسلحة كمؤسسة قادرة على الإنجاز والالتزام بمواعيد محددة، وهو أمر صدقته التجربة، لكنه فى المقابل أدى إلى إضعاف مؤسسات الدولة الأخرى، كما رأى عدد من رجال الأعمال أن فيه تهميشاً لأدوارهم التى اعتقدت السلطة أنهم يستحقونها، بعد أن لم يستجيبوا لمبادرة الـ100 مليار بالشكل الذى كان يحلم به الرئيس. طلب الرئيس كان مبرراً، بحكم أن هؤلاء أخذوا الكثير، وتلكؤهم كان مبرراً أيضاً، لأن الناس ستهتف للرئيس عندما ينجح، ولن تهتف لمن دفعوا، ويا عالم أوضاعهم وقتها هتكون فين!.
هل هناك محاولة لإحياء الظروف والأجواء التى سبقت «30 يونيو» من خلال خنق الاقتصاد، وخنق المواطنين بالتبعية، لهز أوضاع النظام الحالى؟. المؤمنون بدولة «مبارك» والحالمون بعودتها بعد «30 يونيو» يرون أنهم تمكنوا من إسقاط الإخوان عبر آلية «التعجيز» و«خلق المشكلات المعيشية»، الأمر الذى أغرى الشعب بالنزول ضدهم. وربما كان لديهم ظن بالقدرة على إعادة إنتاج المشهد نفسه مرة أخرى، بعد أن أصبح العشم وهماً.. جوهر أزمة الطرف «المباركى» يتحدد فى التأرجح بين العشم والوهم!.