جمال زهران
زيارات الرئيس والاتجاه شرقا.. مصالح وعواطف
تدار العلاقات الدولية بين الدول على أساس تحقيق المصالح المشتركة بين أطراف هذه العلاقة أو تلك، كما أن رئيس كل
دولة ومساعديه فى إدارة سياسة الدولة الخارجية يستهدف تحقيق أقصى درجة من المصالح لبلده فى لحظة زمنية معينة، بل إن الشعوب عادة ما تقيم رؤساءها على معيار ما يستهدفونه وما يحققونه من مصالح لهذه الشعوب، دون تفريط أو تنازل مهما يكن الثمن، وكلما كانت المبادئ الحاكمة للدولة واضحة، كان من السهل تقييم سياساتها فى المجال الخارجى على وجه الخصوص. فالسياسة الخارجية فى أبسط التعريفات هى مجموعة النشاطات التى تقوم بها الدولة خارج حدودها من خلال رموز الدولة وحكامها أو المسئولين فيها، لكنها تصنع فى الداخل وتتقرر فى الداخل أيضا فى ضوء طبيعة نظام الحكم فى هذه الدولة أو تلك. وعادة ما ندرس السياسات الخارجية من خلال نشاطات المسئولين التى تترجم توجهات معينة فى حقبة زمنية معينة.
وقد سبق الحديث فى أن الرئيس عبدالفتاح السيسى (رئيس جمهورية مصر العربية)، وهو رأس الدولة وممثلها الأول والأعلى فى إدارة الشأن الخارجي، قد حسم توجهات سياسته الخارجية فى أول خطاب رسمى فى يوم تنصيبه، حيث حددها بأن لا تبعية بعد اليوم لأى من الدول الكبري، بالإضافة إلى توازن العلاقات الخارجية والانفتاح على الجميع فى ضوء ثوابت الدولة المصرية جغرافيا وتاريخيا، وأن القرار السياسى المصرى سيصنع ويصدر من القاهرة. ولترجمة ذلك عمليا فإنه بادر بالاتجاه شرقا، تتويجا للجهود المبذولة منه كوزير للدفاع، تشاركا مع وزير الخارجية المصرى (آنذاك) السيد/ نبيل فهمي، خلال الفترة الانتقالية بعد 30 يونيو ولحين توليه الرئاسة رسميا فى يونيو 2014م وكانت أهم المحطات هى موسكو، حيث اتجها معا (وزير الدفاع والخارجية) من موسكو للقاهرة، ومن القاهرة لموسكو، لتتأسس علاقة جديدة هى فى الأصل قديمة بين العاصمتين، لتكون أولى محطات التوازن فى العلاقات الخارجية لمصر (موسكو فى مقابل واشنطن)، ومن ثم يصبح الحديث عن علاقات خارجية لمصر تقوم على مبدأ التوازن.
وتتويجا لهذا الاتجاه فإنه فى مقابل أوروبا الرأسمالية كان لابد من إقامة محور للعمل مع قبرص واليونان وإيطاليا، وكان لابد من التوازن بالاتجاه شرقا يبدأ بموسكو والهند وكوريا الجنوبية ولا بأس من كوريا الشمالية قريبا، وكذلك اليابان ودول جنوب شرق آسيا، وقبل هذا وذلك الصين.
وهذه الزيارات التى قام ويقوم بها الرئيس السيسي، للدول الشرقية، تجاوزت زياراته للدول الأخري، هى زيارات ذات طبيعة اقتصادية، لكنها تأتى ترجمة لرؤية سياسية واضحة تعكس فلسفة السياسة الخارجية المصرية فى عهد الرئيس السيسي، وليست زيارات للحصول على بعض المنافع، وتبادل السلع والاستثمار ...إلخ، إنما تأتى هذه الزيارات فى إطار التحول من التوجه غربا إلى التوجه شرقا، ولكن فى إطار التوازنات الجديدة التى ينتهجها نظام الحكم فى مصر على عكس ما كان سائدا أيام السادات ومبارك اللذين كانا يسلمان إرادة الدولة المصرية ويرهنان قرارها فى يد الغرب عموما وفى يد الأمريكان على وجه الخصوص، وقد عبر أ.محمد علام (رئيس تحرير الأهرام) فى أحد مقالاته المهمة تغطية وتحليلا لآخر زيارات السيسى فى آسيا، بالقول: (السياسة قبل الاقتصاد والمصالح قبل العواطف)، وعلى الرغم مما رصدته فى زيارات الرئيس فى جولتة الآسيوية الثانية أو الثالثة، من انجازات وتحولات فى المجالات الاقتصادية تحدث عنها آخرون، إلا أن اللافت للنظر هو أن هذه الزيارات يجب أن تفهم فى سياق التحولات الجديدة فى توجهات من الخارجية وربما تكون مظلة قوية لدعم ممارسة الدور القيادى لمصر عربيا وإفريقيا وآسيويا بما يشابه أو يفوق - وهذا ما نتمناه - حقبة الخمسينيات والستينيات، حيث عاشت مصر أزهى عصور دورها القيادى إقليميا وعالميا فكانت وراء إنشاء عدم الانحياز (1961) ومنظمة الوحدة الإفريقية (1963) والمؤتمر الإسلامى (1969)، واعتقد أن تفكيك العلاقات مع الغرب بقيادة أمريكا، والذى لايزال يتعامل مع مصر والعرب بالرؤية الاستثمارية، باعتبار أن المنطقة منجم الذهب لابد أن يخضع لسيطرته بكل الأساليب مصحوبا بالاستعلاء والغرور، ليس أمرا سهلا، لكنه يحتاج للإرادة وأتلمس وجودها من جانب. وعلى الجانب الآخر فإن تأسيس علاقات استراتيجية مع الشرق ليس بالأمر السهل أيضا، لأنه يتطلب استعادة دور حيوى قوى للدولة فى الاقتصاد بحيث لا يترك المجال لحفنة من رجال الأعمال الذين يتلقون التعليمات من أمريكا وعملائها الإقليميين، ويسعون إلى السيطرة على الاقتصاد الوطني، الأمر صعب وعسير، ولكن فى ظل توافر الإرادة السياسية القوية والحاسمة، فإن إزالة هذه المعوقات والتأسيس لعلاقات مصرية خارجية توازنية دون تبعية، تصبح أمرا هينا وليس بالصعوبة، لعل هذه الزيارات والنشاطات التى يقوم بها الرئيس على مدى (20) شهرا امتدادا لعام انتقالى سابق، يؤكد أن مصر فى الطريق السليم.
ومازال الحوار متصلا،