عرفت الأستاذ محمد مهدى عاكف، المرشد العام السابع للإخوان، عام ١٩٨٧، أى منذ دخولنا مجلس الشعب كأعضاء أثناء التحالف مع حزبى العمل والأحرار، وفى هذا التاريخ أيضاً، أصبح عضواً بمكتب الإرشاد، أى بعد التحاقى به بعامين، كانت معرفة سطحية لم أختبره فيها بالقدر الذى يكشف لى عن طباعه، وشخصيته، وطبيعة تكوينه، صحيح كنت أسمع عنه كلاماً من أخوة كبار، عايشوه زمناً طويلاً من حياته داخل السجون وخارجها، لكنى كنت أضع هذه المعلومات فى حجمها، كانت تدور بيننا مناقشات وحوارات، ولم أكن أخفى إعجابى بالرجل، فقد كان كريماً، ودوداً، سباقاً دائماً إلى الاتصال فى المناسبات (العامة والخاصة)، لكن المعرفة الحقيقية كانت فى الفترة التى قضيناها معاً فى «سجن ملحق مزرعة طرة»، فيما بين عامى ١٩٩٦ و١٩٩٩، وكذا فترة السنوات الست العجاف التى قضيتها كنائب أول له فى الفترة من ٢٠٠٤ إلى ٢٠١٠، والتى كشفت لى أموراً لم تكن تخطر لى على بال، إن اختيار إنسان لموقع قيادة على هذا النحو يجب أن يستند إلى معرفة حقيقية لإمكانيات وقدرات هذا الإنسان، النفسية والعصبية والخلقية والذهنية، علاوة على العلم والفهم والفقه، فضلاً عن القدرة على الإدارة فى هذا الموقع أو ذاك، هناك مجموعة من الخصائص والسمات الإيجابية تميز بها الرجل؛ كالكرم والشجاعة والانفتاح على القوى السياسية والشخصيات العامة والرموز الوطنية، لكن كانت هناك خصائص وسمات أخرى سلبية لعبت دوراً خطيراً فى تخريب الجماعة.
كان الكرم يتبدى فى أشياء كثيرة، فهو لا يعلم أن أخاً من الإخوان فى شدة أو حاجة، إلا وبادر إلى مساعدته والوقوف إلى جواره، وكان الأصل عنده أن ينفق على كل من حوله ببذخ، ذكر لى أحد الإخوان ممن رافق الأستاذ «عاكف» فى سجون الواحات والمحاريق وقنا لمدة ٢٠ عاماً، أن الإخوان كانوا يمنعونه من إمساك الميزانية، لأن كفه -على حد قوله- مثقوب، وقد صاحبته فى رحلات كثيرة خارج مصر، فلم أجد إلا إنساناً كريماً بكل معنى الكلمة، مع ما يتصل بها من شجاعة وشهامة، أتذكر جيداً أننا كنا فى إستانبول بتركيا، وكنت نازلاً فى فندق لا أعرف له نجوماً، فالغرف ضيقة والأَسرة على قد الحال ودورات المياه حدث عنها ولا حرج لدرجة أن الأحواض قديمة ورثة وتتكئ على مواسير حديدية تجاوزت عمرها الافتراضى بكثير وأكلت منها «البارومة» وشربت، وفى أحد الأيام كنت أتوضأ، وإذا بالحوض يسقط على الأرض لمجرد لمسه، وعند المغادرة أراد موظف الفندق أن يحملنى ثمن حوض جديد، وأنا فى نقاش معه، جاءنا الأستاذ «عاكف»، وعندما علم بالخبر استشاط غضباً وعلا صياحه وهدد موظف الفندق وأصر على الاتصال بالشرطة، وإذا بالموظف يتراجع ويتنازل عن طلبه، بل يحاول أن يهدئ من روع الأستاذ «عاكف»، وكل رجائه أن ينتهى الموقف عند هذا الحد.
كان الرجل يحيط ضيوفه بكل أنواع الكرم، من حيث الاستقبال والترحيب والمائدة الممتلئة بأطايب الطعام، سواء فى بيته بالتجمع الخامس أو فى مزرعته الخاصة على طريق الإسماعيلية، ومنذ تولى منصب المرشد ومكتبه لم يكن يخلو من أصناف متعددة من الفاكهة، ثم هو يهتم للغاية بأناقته وشياكته، بل يهتم بشكل غير عادى بالعربة التى يركبها، من حيث الموديل والسعة والسرعة والمظهر، حدثنى يوماً فى أوائل توليه المنصب أنه يريد دعوة بعض المثقفين والمفكرين من أمثال: نادر فرجانى، حسن نافعة، عمرو الشوبكى، ضياء رشوان، وغيرهم، وأن تكون الدعوة على طعام الغداء، وقد فعل، وكان لذلك أثره على تلك اللقاءات، وقد جمع الأستاذ «عاكف» إلى جانب الكرم، قدراً كبيراً من الشجاعة والإقدام، فالرجل غير هياب ولا يخشى اقتحام المجهول، أيا كان، وقد تصل الشجاعة عنده أحياناً إلى حد التهور، بحيث لا يبالى بمن أمامه، وزيراً كان أم خفيراً، وهو ما كان يوقعنا فى حرج كبير، فى سجن ملحق مزرعة طرة، كانت الزنازين الضيقة مغلقة بإحكام، حتى إن «الشراعات» فوق الأبواب كانت هى الأخرى مسدودة، والسبب أن مجموعة «ثورة مصر» بقيادة محمود نور الدين كانت نزيلة هذا السجن، وكل من يمر من السجانين أمام الزنازين يقومون بالبصق عليه من خلال هذه «الشراعات»، فاضطرت إدارة السجن إلى سدها بألواح من الصلب، وظلت هذه الألواح فى مكانها لسنوات طويلة، وفى الصيف تصبح الزنازين وكأنها قطعة من جهنم، والعياذ بالله، وفى أحد الأيام، وكان يوم جمعة، أشار علينا الأستاذ «عاكف» بنزع ألواح الصلب عن «الشراعات» حتى نستطيع التنفس، فوافقنا، وما هى إلا ساعة واحدة حتى امتدت معاولنا إلى ألواح الصلب فنزعناها جميعاً، وفى اليوم التالى، لم تلق إدارة السجن بالاً لما فعلنا، ومضى الأمر دون أى ردود فعل سلبية.
بعد قضاء مدة محكوميته (٣ سنوات) فى القضية العسكرية بشأن حزب الوسط، تم الإفراج عنه أول أبريل عام ١٩٩٩، وأفرج معه عن: حسن جودة، محمود أبوريا، محمد بدوى، ومصطفى الغنيمى، وبعد أن وصلت بهم سيارة الترحيلات إلى مبنى وزارة الداخلية بلاظوغلى فى وسط القاهرة، أمرهم أحد الجنود -حسب التعليمات المعطاة له- بأن يضع كل واحد منهم غمامة على عينيه قبل لقاء ضابط مباحث أمن الدولة، فما كان من الأستاذ «عاكف» إلا أن صرخ فى وجه الجندى، وقال فى حدة: امشى.. امشى.. أصاب الجندى رعب شديد ومضى لا يلوى على شىء.
لم يكن الأستاذ «عاكف» يتردد فى إبداء رأيه، حتى لو خالف رأى الجميع، وقد عايشت الكثير من المواقف التى كان الرجل فيها يواجه الأساتذة: محمد حامد أبوالنصر، مصطفى مشهور، أحمد حسانين، والمأمون الهضيبى بكل الصراحة والوضوح، وقد روى لى قصة إخفائه للواء عبدالمنعم عبدالرؤوف، وحراسته للمستشار حسن الهضيبى (المرشد العام الثانى للإخوان) بمطار القاهرة وهو عائد من زيارته لدمشق، بما يدل على شجاعة الرجل ورباطة جأشه، وقد حكى لى أيضاً روايات كثيرة عن تعذيبه الشديد على يد رجال عبدالناصر، لدرجة أنه أشيع بين الإخوان أنه مات، لذا، كان الإخوان ينسبون إليه كل عمل أثناء التحقيقات، وكان أثناء التعذيب يصرخ فى وجوه جلاديه، وهو معلق كالذبيحة: اضربوا.. اضربوا يا ولاد الـ«.. .. »، وقد لازمته شجاعته بعد سماعه الحكم عليه بالإعدام عام ١٩٥٤، غير أن الحكم تغير فى آخر لحظة إلى المؤبد (وللحديث بقية إن شاء الله).