شعبان يوسف
متى تحتفل وزارة الثقافة بعبد الرحمن الأبنودي؟!
فى مارس 1967 صدر قرار الإفراج عن الشاعر عبد الرحمن الأبنودى، وفى 13 مارس 1967 بدأ الأبنودى يستقبل الأصدقاء والمحبين والمثقفين والكتّاب فى منزله، ليقدّموا كل أشكال التهنئة على خروجه، بعد غيابه عدة شهور خلف القضبان، وهو وبضعة رفاق له، منهم إبراهيم فتحى وجمال الغيطانى وصلاح عيسى وسيد خميس وسيد حجاب وصبرى حافظ وغالب هلسا وآخرون، وكانت تهمتهم أنهم أنشؤوا تنظيما شيوعيا ماويا، نسبة إلى الزعيم الصينى ماوتسى تونج، وكانت تهمة هذا التنظيم -كالعادة- هى قلب نظام الحكم!
وكان القبض على هؤلاء الشباب فى أكتوبر عام 1966، فى أعقاب سلسلة مقالات، كتبها الكاتب والمثقف الأردنى غالب هلسا، فى مجلة الحرية اللبنانية، هذه المقالات كانت تناقش وضعية الديمقراطية فى عالمنا العربى، وتطرقت المقالات إلى الوضع السياسى فى مصر، مما أثار تحفظ السلطات السياسية المصرية، وبالتالى تحركت الأجهزة الأمنية، وقبضت على غالب هلسا، ومعظم مَن كانوا حوله من أصدقائه، الذين كانوا يرتادون شقة فى حىّ العجوزة، ليتناقشوا فى كل شىء، وليمارسوا الحرية الكلامية والفكرية والأدبية، بكل صورها، ولكن السلطات لم تحتمل ذلك، فكان القبض على هؤلاء الشباب وإسكات أصواتهم إلى حين، هو الحل الأوحد والنموذجى للسلطة فى ذلك الوقت، وإشهار التهمة الجاهزة دوما، وهى قلب نظام الحكم .
كانت الفترة التى قضاها الأبنودى ورفاقه فى المعتقل فترة حرجة حقا، وكان الصراع فى أعلى السلطة بين عبد الحكيم عامر ومن حوله، وجمال عبد الناصر ومن حوله على أشده، وكانت بوادر الأزمة السياسية بين مصر وإسرائيل كذلك، على أشدها، وبالتالى تدخلت شخصيات كثيرة وكبيرة للإفراج عن هؤلاء الشباب، شخصيات تبدأ من خالد محيى الدين، حتى المفكر الفرنسى جان بول سارتر، الذى كان يزور مصر فى ذلك الوقت، وبفضل المساعى العديدة والمكثفة، وبفضل الظروف السياسية التى كانت تحتاج إلى كل العناصر الوطنية، تم الإفراج عن الشباب، وعلى رأسهم الشاعر الموهوب عبد الرحمن الأبنودى، الذى كانت شهرته أكثر بكثير من زملائه جميعا، فقد كان يكتب الأغانى التى يرددها الناس لأشهر، وأهم المطربين المصريين، وعلى رأسهم عبد الحليم حافظ الذى لم يكن مجرد المطرب الذى يغنى لعبد الرحمن الأبنودى فقط، بل كانا صديقين حميمين.
وعندما خرج الأبنودى من المعتقل قرر أن يذهب لزيارة أهله فى محافظة قنا، ليرتاح قليلا، وكان ذلك فى مايو 1967، وساعتئذٍ جاءه تليفون من القاهرة، وكان المتحدث الكاتب والصحفى والمؤرخ الفنى وجدى الحكيم، الذى استدعى الأبنودى على عجل إلى القاهرة، وفى 14 مايو جاء الأبنودى ليشارك بكل طاقته الفنية فى إنشاء الأغانى الوطنية الحماسية، مثل: اضرب.. لجل الولاد اضرب.. لجل الربيع.. اضرب.. لجل الجميع.. اضرب ، وكذلك: ولا يهمك يا ريس.. م الأمريكان يا ريس.. ، و بالدم هناخد تارنا.. بالدم نعود لديارنا ، ثم الأغنية الأشهر والأجمل والأعظم، والتى ما زلنا نرددها ونستدعيها فى كل المناسبات الوطنية، وأداها عبد الحليم فى روعة وطنية عالية، أقصد أغنية أحلف بسماها وبترابها.. أحلف بدروبها وأبوابها.. ما تغيب الشمس العربية.. طول ما أنا عايش فوق الدنيا ، ثم إنذار يا استعمار.. بترول مافيش.. قنال مافيش ، هكذا اشتعلت موهبة الأبنودى حماسا، وأشعل حماس المصريين.
ولأن الأبنودى لم يكن شاعرا بعيدا عن الناس، كان مفعما بالوطنية، ومعجونا بها، ولم يستسلم لمشاعر كراهية السلطة التى اضطهدته واعتقلته، وغيّبته، وعذبته، وبالعكس استجاب إلى متطلبات المرحلة، وجنّد كل مشاعره وحواسه ليستطيع أن يكون دوما على مستوى الحدث، وعندما وقعت الكارثة، وحلّت نكسة 1967، لم يستطع الهتاف أو الصراخ أو النشيج، بل كتب قصيدته، أو مرثيته كباية شاى ، والتى جاء فيها:
على كرسى ف قهوة ف شارع شبرا..
قعدت..
وجابلى كباية الشاى الجرسون...
كباية شاى القهوة غير كباية شاى البيت خالص..
بصّيت له كتير..
مش عارف ليه..
من مدة طويلة ماشفتش حىّ..
كان الشارع نابض فيه الدم المطفى وحىّ..
مرّ علىّ الراجل لاصلع خالص..
والبنت اللى فى إيدها طبق الفول الناقص خالص خالص… .
إنها قصيدة تجسّد الحزن والمرارة والدهشة واللوعة، دون أدنى تعبيرات صارخة أو زاعقة.
ومنذ تلك اللحظة، والأبنودى يعيش فى عطاء مستمر، ويغنى لكل طبقات الشعب، ويجسّد عن كل أشكال الحرية الإنسانية، ويقاوم كل أشكال الاستبداد، وتجلّى هذا فى ديوانه الذى صدر أخيرا المربعات ، وكتب تلك المربعات، وهو فى محنته الصحية، وظلّ يقاوم هذا الوحش الضاغط على رئة الفنان العظيم.
وكذلك ظل خصومه يرمونه بالإشاعات والنمائم، وظل هو يقاومهم بالفن، وبالعطاء، وبممارسة حريته فى إبداع فن شامخ وكبير يدوم فى مواجهة كل أنواع الصغار.
وفى إحدى زياراتى له منذ عدة شهور، وكانت معى الكاتبة الدكتورة جمال حسّان، اقترحت عليه إقامة مؤتمر حول مسيرته الإبداعية الثرية والغنية والطويلة، ووافق، وبالفعل اتصلت بالشاعر محمد أبو المجد، أحد قيادات الهيئة العامة لقصور الثقافة، ومشكورا أبدى استعداده، وأرجأ كل الترتيبات بعدما يعرض الأمر على د.سيد خطاب رئيس الهيئة، وبعدها ببضعة أيام هاتفنى الأستاذ أبو المجد، وأبلغنى بأن د.سيد خطاب وافق على المؤتمر، وحدّد مكانه فى الإسماعيلية، حتى يستطيع الأبنودى حضور الافتتاح، وقال إنه سيرتب ميعادا لتشكيل لجنة للتحضير لهذا المؤتمر، وبعدها لم يحدث شىء على الإطلاق.
كذلك طرحت فكرة الاحتفال بشاعرنا الكبير من خلال لجنة الشعر، وأنا عضو بها، ووافقت غالبية اللجنة، ولكن تم تجنيب الأمر برمته، لأسباب ليس مجال شرحها الآن.
وحسنا أن وزير الثقافة الجديد الدكتور عبد الواحد النبوى، كان من أولى خطواته أنه زار شاعرنا الكبير، لكن يا سيادة الوزير، الأبنودى لا يحتاج إلى زيارات فقط، أو لسيارة إسعاف تنقله من منزله إلى المستشفى أيا كان هذا المستشفى، ولا يحتاج إلى بوكيه ورد كبير يرسله له أى كائن كان، لكننا نحتاج بشدة إلى إقامة مؤتمر لهذه القامة الشامخة والعظيمة، حتى نعرف قيمة من بيننا، فهل يفعلها وزير الثقافة ويفاجئنا؟!