قبل أيام شاهدتُ على الفضائيات فيلما أمريكيا «جود ويل هانتنج» من واقع الحياة، ولم تكن المرة الأولى التى أشاهده فيها، فهو فيلم إنسانى بديع عن شاب موهوب لعب دوره «مات دامون»، وكيف اكتشفه مجتمعه ودفع به إلى الأمام، حتى لو كان كان الشاب مضطربا منطويا تكاد عربة الحياة القاسية تدهسه تحت عجلاتها.
فالشاب فقير لم يكمل تعليمه الجامعى، وكانت حياته جرعات من البؤس والمعاناة والألم فى دور أيتام وبيوت أسر بديلة عديمة الرحمة، فترعرع عدوانيا متمردا، فيه بعض الانحراف، لكنه عشق المعرفة والقراءة والتعلم، وُجنَّ بعلم الرياضيات الصعب، واشتغل عامل نظافة فى إحدى الكليات العملية، وكان فى الكلية أستاذ رياضيات نصف مشهور، سأل طلابه أن يحلوا معضلة رياضية معقدة كتبها لهم على السبورة، اختبارا نهائيا لعله يعثر من بينهم على عقل لامع مبتكر يمنحه فرصة أفضل للتقدم العلمى والعملى!
ولم يستطع أى من طلابه أن يحلها إلا عامل النظافة الذى تسلل خلسة إلى السبورة وكتب عليها الحل السحرى، دون توقيع، وراح يبحث عن صاحب الحل حتى عرف بالمصادفة حكاية عامل النظافة وذهب إليه فى بيته، فوجده مطلوبا على ذمة قضية اعتداء بالضرب حُكم عليه فيها بالحبس ستة أشهر، فقدم طلبًا للقاضى أن يرعاه ويعيده عضوًا نافعًا فى المجتمع، ويعالجه نفسيا من العقد التى ترسبت فى أعماقه منذ طفولته المعذبة!
وسأله القاضى: لماذا تريد أن تفعل ذلك وأنت لا تعرفه؟!
أجاب الأستاذ: إنه عقل عبقرى، ومن الخسارة لأمريكا أن يضيع فى زحمة الحياة دون أن تستفيد منه، مثل هؤلاء يا سيدى القاضى هم الذين فتحوا لأمريكا أبواب قوتها وتقدمها ونظامها.. وهم حلمها الدائم إلى المستقبل الأفضل!
فاستجاب القاضى له.
وأخذه الأستاذ إلى طبيب نفسى تعذب مع الشاب العبقرى العنيد الخائف من الحياة، حتى استرد نفسه خالية من العُقد، وشق طريقه عالمًا فى الرياضيات!
ما أجمل النفوس السويّة والعقول الحالمة فى بناء أوطانها.
فهذا أستاذ حالم، وطبيب نفسى حالم، هما اللذان صنعا المعجزة، معجزة تحويل شاب معقد منحرف إلى عالم فذّ فى الرياضة!
إنه الحلم أن يتخرج على أيديهما شخصيات لامعة فى مجتمعها.
وهذا ما يحتاج إليه المصريون فعلا، أن يكونوا شعبا من الحالمين، فالحلم هو أول خطوة نحو التغيير، فالإصلاح ليس كالقضاء والقدر، قادم على حصان أبيض ينتشل الناس من أوضاعهم إلى أوضاع أفضل، فمصائر البشر يصنعها البشر بأنفسهم حين يحولون أحلامهم إلى حقائق على أرض الواقع، بالعمل وبالمثابرة والجهد والابتكار والإتقان، وقد يلعب القدر دورا مساعدا أو معاندا.
ولو ضربنا باليابان مثلا.. سنجدها تمضى فى الاتجاه المعاكس لسوء الحظ، فهى مجرد جزر بركانية محرومة من الثروات الطبيعية التقليدية، لكن شعبها لم يستسلم لظروفه، وأفرد شراع الحلم وأبحر به إلى التقدم والتحديث.
والمصريون لن يكسروا أطواق التخلف إلا بالحلم والعمل، ولا مانع أن يتألموا، فقد عرفتْ البشرية دوما نوعًا من الألم الخلاق المفجّر لطاقات الإنسان الكامنة، وليس الألم العاجز الذى ينشر الخوف ويعيق التغيير والتطور.
الحلم ليس وهمًا ولا هروبًا من الواقع المُرّ.