عندما صدرت الطبعة الأولى من ترجمة رواية: عوليس. كتبت عنه. مرحباً بصدور الرواية أخيرا. وقد كتب لى الدكتور طه رسالة طويلة بعد نشر ما كتبته. ومرت سنوات. وعندما كنت أقلب فى أوراقى القديمة. وأنفض عنها تراب الزمان. فوجئت برسالة الدكتور طه.
كان فى آخر الرسالة رقم تليفون منزله. وعندما اتصلت به فوجئت بمن يرد عليَّ ويقول لى إنه توفى إلى رحمة الله. وعشت من جديد الإحساس بأن أفضل من قدموا العطاء يرحلون ويتركوننا واحدا بعد الآخر. وعندما وجدت هذا الإحساس عند الآخرين تأكد لى أن الرجل الذى يعود إليه الفضل فى أننا قرأنا رائعة جويس مترجمة إلى اللغة العربية. قد انسل من بيننا وترك لنا الدنيا بما فيها ومن فيها.
وهكذا تعودنا أن نقرأ اسم الدكتور طه محمود طه مسبوقا بكلمة الراحل أو المرحوم. وتعاملنا مع الأمر على أنه مسلمات لا بد من الاعتراف بها. ورغم أن الموتى لا يعودون للحياة مرة أخري. إلا أن الدكتور طه ما زال حيا يرزق بيننا. ثم عرفت أن رقم التليفون الذى كان معى كان يخص نجله. الذى كان يقيم عنده كلما زار مصر بعد أن عمِل فى الكويت.
ثم وقع خلاف بين ابن الدكتور طه وأصحاب العمارة التى يسكن فيها. وعندما آلت الشقة إلى أصحاب البيت بالتليفون الذى فيها. كانوا يردون على من يطلب طه محمود طه بأنه قد توفى كنوع من الانتقام من الرجل وإن كان الانتقام خسيسا. فيه تصرفات الذين لا يملكون سوى أموالهم ويخلون من شهامة المصرى التى عرفت عنه عبر التاريخ.
والنتيجة أن الرجل الذى تعاملنا معه باعتباره رحل عن عالمنا ثم اكتشفنا أنه حى يرزق. ويترجم لنا ما بقى من أعمال جويس الخالدة. خاصة أننا عرفناه فقط بروايته: عوليس. وكأنها بيضة الديك. مع أن له أعمالاً أخرى لا تقل عنها أهمية إن لم تتفوق عليها.
تلك هى حكايتى مع مترجم عوليس إلى العربية. أما حكايتنا كلنا مع جويس فلها شأن آخر. فمن سنواتنا البكر فى الكتابة منذ منتصف ستينيات القرن الماضى كنا نتكلم عن روايتين. باعتبارنا قرأناهما. أولاهما هي: عوليس. والثانية: البحث عن الزمن المفقود. لمارسيل بروست. وقد تصور كل منا أنه لن يحرر شهادة ميلاده الثقافية إلا بعد أن يثبت أنه قرأ هذين العملين.
وبعد تعارفنا على بعضنا البعض، ووجود الألفة الإنسانية بدأ كل منا يعترف لصديقه أنه قرأ عن هذين العملين ولم يقرأهما. إلى أن هل علينا زمان قرأنا فعلاً وليس فى مصر. والبحث عن الزمن الضائع التى ترجمتها وزارة الثقافة السورية فى دمشق.
عند قراءة عوليس من الصعب أن تجد متعة القراءة المريحة التى تساعد الإنسان على قضاء الوقت. فجويس من رواد التجريب فى القرن العشرين. ولولا جويس وزميله بروست. لما حفل هذا القرن بالعديد من المغامرات الفنية التى جرت فيه.
بدأ الدكتور طه ترجمة عوليس 1964 ونشر فصلها الرابع فى مجلة الكاتب فى مايو 1964 تحت عنوان: «45 دقيقة فى حياة مستر بلوم» والفصل العاشر: المتاهة الصغري، نشره فى مجلة المجلة التى كان يرأس تحريرها يحيى حقى فى نوفمبر 1965. وصدرت الترجمة العربية فى 1982 فى إطار الاحتفالات التى عمت العالم بمرور مائة سنة على ميلاد جويس. المولود فى 2 فبراير 1882. ومن أجل أن يترجم الرواية الفذة سافر طه إلى أيرلندا بلد جويس وقضى ثلاث سنوات. زار الأماكن التى يصفها الكاتب. وطوف بدبلن وعاش فى كل بقعة كتب عنها فى روايته.
الطبعة الأولى من رواية القرن صدرت عن المركز العربى للنشر الذى كان يملكه الدكتور السيد الشنيطي. ومن أجل أن تصدر بسعر رخيص كان الخط صغيراً ودقيقا اشتريتها فى 1982 بسبعة جنيهات وكانت فى جزءين لكن قراءتها كانت صعبة وقاسية. إن لم تكن مستحيلة.
بعد 13 سنة صدرت الطبعة الثانية من الرواية التى تقع فى 260430 كلمة. فى كتاب فاخر تميز غلافه صورة كبيرة لرمز من رموز أيرلندا القومية. وأصدرتها فى طبعة فاخرة الدار العربية للطباعة والنشر.
وفى تصورى أن مصر مفروض عليها أن تقدم لمترجم هذه الرواية الأستاذ الدكتور طه محمود طه. ما هو أكثر من كل الجوائز التى كان يمكن أن يحصل عليها فى حياته عن ترجمته للرواية. وكل ما كتبه عن جويس وترجمه له. فالترجمة ـ كما أكد من قرأوا النص فى لغته الأصلية - هى إعادة خلق للنص الأصلي. ولا تقل عن جمال وروعة وصعوبة النص الأصلى المترجمة عنه.
أصدر الدكتور طه سنة 1975. موسوعة جيمس جويس التى استغرق إعدادها خمس سنوات. قدم فيها عالم جويس بكل تعقيداته وغناه وخصوصيته. وفى الموسوعة ـ التى طبعت فى الكويت ـ ترجم مختارات من أعماله القصصية. ومن يقرأ الموسوعة يكون كما لو كان قد قرأ جويس كله.
ثم حاول أن يستكمل ترجمة ما بقى من أعمال جويس إلى العربية بما فى ذلك من صعوبات. وإن كنا قد قرأنا ديستويفسكى فى الستينيات بفضل المرحوم سامى الدروبي. وقرأنا أندريه مالرو فى السبعينيات بفضل المرحوم فؤاد كامل. فالفضل يعود أولا وأخيرا إلى طه محمود طه فى قراءة جيمس جويس. الذى ظل قلعة منيعة حتى اقتحمها هذا الراهب. الذى لا تقل رهبته عما فعله المرحوم جمال حمدان بنفسه. إن المترجمين هم اللبنة الأولى فى صناعة الحضارات الكبري. ونهضة مصر فى القرن الماضى بدأت ـ أيها السادة ـ بالترجمة.
بقى أن تعرف أن طه محمود طه ولد سنة 1929 وتوفى فى 16 أبريل 2002 وحصل سنة 1957 على منحة لدراسة الدكتورة فى جامعة دبلن. وكانت رسالته للدكتوراه عن ألدوس هكسيلى الذى راسله طه منذ عام 1955 وعاد للقاهرة 1961 وعمل بجامعة عين شمس. ثم تفرغ للترجمة 1966، وسافر إلى الكويت وقضى فيها 18 عاماً.
يقول صلاح عبد الصبور: يا موتانا ذكراكم قوت القلب فى زمن عزت فيه الأقوات.