ليلى تكلا
تراث الماضى.. وبوصلة المستقبل
قد يظن البعض أن الحديث عن الثقافة فى أيامنا هذه ليست له الأولوية، لكن الواقع والرؤى تؤكد غير ذلك. مصر تمر بمرحلة تتطلب العمل والإنجاز وتحقيق الأهداف فى أقصر وقت وأعلى كفاءة ممكنة مما يقتضى تحديد مصادر المشاكل، وتطبيق العلاج المناسب لكل منها. والتحديات التى نواجهها شعباً وحكومة ليست فقط سياسية أو أمنية أواقتصادية لكنها بدرجة كبيرة سلوكية ثقافية.
والثقافة ليست مجرد الفنون والآداب ووسائل الترفيه والتعبيرات الفنية عن المشاعر والآمال بالرسم والموسيقى والنحت والفلكلور كما أنها ليست مجرد وسيلة للتنفيس أو التسلية تستخدم آليات السينما والمسرح وبرامج التليفزيون..هى كل ذلك لكنها أكثر كثيراً من هذه التعبيرات الثقافية التى تعبر عن الثقافة السائدة وهى أيضاً من أدوات تشكيلها وتطويرها إلى الأفضل أو العكس.
الثقافة فى مفهومها الصحيح هى الإطار الفكرى والنفسى والأخلاقى الذى يشكل المجتمع فى قيمه وعلاقاته وتطلعاته وسلوكه ومشاكله وكيفية مواجهتها. إنها قيم يتشربها الإنسان لتكمن فى عقله ووجدانه فتحرك أفعاله وقراراته. مصر لديها تراث هائل ضخم نادر علينا الحفاظ عليه والإعتزاز به، علينا التعريف به ودعم الارتباط به لنشر ثقافة الانتماء والوطنية والمواطنة. أن من لا يعرف تاريخه لا يستحق حاضره وليس له مستقبل ومصر أم التاريخ. الثقافة تحافظ على التراث، وتتناقله عبر الأجيال. تحمى ما فيه من إيجابيات وإنجازات وتنقيه من موروثات سلبية دخيلة تنقض عليه بين حين وآخر من الخارج أو الداخل وتتصدى لها.
الثقافة تحدد نمط الحياة الذى نعيشه اليوم وتقييم الأفراد يرتبط بالثقافة السائدة. فى بعض المجتمعات تحترم المرأة كإنسان ومواطن له جميع الحقوق والواجبات وعليه المشاركة بفاعلية لتقدم المجتمع وفى بعضها ناقصة الحقوق والأهلية والمسئولية سلعة تباع وتشترى تحت غطاء الزواج. بعض المجتمعات الاختلاف فى العقيدة الدينية أو المذهب أمر يستحق القتل فى غيرها مجرد محاولة معرفة ديانة الشخص تعتبر جنحة يعاقب عليها.
الثقافة تحدد ايضا طريقة التعامل مع المواقف. فى طريقنا بالسويد لحضور اجتماع برلمانى وقع تصادم بين سيارتين وقفنا نتفرج نزل كلا السائقين وتبادلا الكروت وانصرف كلٍ إلى حاله. همس زميلى الذى يسأل دائماً خلصت كده؟ رد الآخر الذى يعرف الإجابات هذه ثقافة مختلفة.
والمستقبل لا يتحدد الغد بل نحدده اليوم - بل وحسب الأمس - ثقافة التكاسل لا تقود إلى التقدم، ولا السلبية إلى التطور، ولا تؤدى ثقافة العنف للإستقرار، بناء الدول يقوم على ثقافة الانتماء وقبول التعدد وحب العمل قيم تقود إلى التنمية والارتقاء.
هذه القوة المؤثرة للثقافة تقوم على أساس التفكير العلمى أى علاقة السببية. العلاقة بين السبب والنتيجة بمعنى أننا إذا أردنا الوصول لهدف ما علينا اختيار الطريق الصحيح والدرب الذى يؤدى إليه وإلا فإننا لن نصل إلى ما قصدنا.
فى مصر اصبحنا ندرك هذه العلاقة بين الثقافة والسلوك لكن على المستوى الفكرى واللفظى فقط ليس على المستوى العملى بمعنى أننا إذا أردنا أن ندعم قيمة معينة نطالب بالثقافة التى تقود إليها.. نقول مطلوب ثقافة الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان وثقافة قبول التعددية، وثقافة الانضباط ،وثقافة الاستماع والتفكير العلمى وخلافه... عشرات الأقوال تربط بين الثقافة والسلوك لكننا مع ذلك وبالرغم منه لا نقوم بما هو مطلوب لنشر وغرس هذه الثقافة أو تلك..
تثير قضية الثقافة أمورا كثيرة متشعبة نشير إلى ثلاثة: أولها ضرورة البدء بنشر وتعميق ذلك المفهوم الأشمل والأصح للثقافة. وتشهد مضابط المجلس الأعلى للثقافة أننا - وعددا محدودا من الأعضاء - دأبنا ندعو إليه لكن ظل المفهوم بصفة عامة محدوداً ينحصر فى الاهتمام بالإنتاج الثقافى أو التعبيرات الثقافية. فى يوم منذ أربع سنوات طلع علينا أحد الوزراء بتصريح عن ورقة عمل ترسم برنامج «خارطة الطريق للنهوض بالثقافة»...استبشرنا خيراً لكنه استرسل ليعلن أن مكونات الثقافة هى الاهتمام بالفنون والآداب والسينما والمسرح، وكلها مهمة لكنه تجاهل دورها فى تصحيح السلوك وتحقيق التنمية.
الأمر الثاني: حقيقة وصل إليها الفكر والبحث فى مسألة الثقافة وهى أننا إذا أردنا النجاح فى استثمار الثقافة.. فإننا فى أشد الحاجة إلى ما أطلق عليه اثقافة الثقافةب أى الثقافة التى تضع الثقافة فى مكانها الصحيح وتعطيها الأولوية التى تستحقها . وللتوضيح نقول لما كان الاهتمام بقضية ما يقتضى نشر الثقافة التى تدعمها، وتبنى أركانها فإن الثقافة ايضا كى تقوم بواجبها فى تحديد وتصحيح نمط الحياة كى يقود المجتمع إلى التقدم ويوفر للمواطن حياة أفضل يقتضى بدوره نشر ودعم ثقافة الثقافة، والتعريف بدور الثقافة فى تشكيل الإنسان والمجتمع. يقصد بذلك وجود القرارات والتصرفات التى تؤكد قيمة الثقافة وتأثيرها إما تحقيق التقدم أو الردة والتخلف. ثقافة تقوم على احترام الثقافة والعمل الثقافى وإعطائها حق قدرها، وإدراك المفهوم المتكامل لدورها، وهذه تتعلق بسياسات الدولة والقيادات القدوة، ووسائل الإعلام، لكنها ايضا مسئولية المثقفين الذين عليهم دور كبير فى تحقيق احترام الثقافة عن طريق المثقف الذى يصبح قدوة من خلال سلوكه وقيمه، ما يكتب وما يقول وما يدعو إليه.
والمثقف فى تقديرى ليس الذى يتصور أنه يعرف، أنه الذى يدرك أنه لا يعرف إلا قليلاً. وأن آفاق المعرفة أبعد من أن يستوعبها جميعاً فلا ينقطع عن محاولة الحصول على العلم والمعرفة وهو يدرك أنه لا يحتكر الحقيقة وعليه الاستماع لغيره ليس إملاء الرأي. إن الثقافة سلطة فقط فى إطار أنها لا تخضع إلا لسلطة عقله وفكره مهما تكن المكاسب أو العوائق. المثقف والمفكر - وهما ليسا مترادفين - يدرك كل منهما دوره فى حماية الماضي.
إنه الذى يدرك دوره فى حماية الماضى وصنع الحاضر ورسم المستقبل فى كل كلمة يكتبها أو يقولها وكل فكر ينشده.
الأمر الثالث: هو أن نشر الثقافة التى تقود إلى تحقيق أهداف الوطن ليست مسئولية وزارة الثقافة وحدها، يشارك فيها عدد من الوزارات والهيئات والمنظمات، وكل ما يؤثر فى الفكر والمعرفة. ولكل منها آلياتها ووسائلها وهى قضية تصلح لحديث مقبل.