كارم يحيى
لا ئحة السجون و«أنسنة» الحبس
تعرفت على الحقوقى التونسى الراحل أحمد عثمانى قبيل منتصف عقد الثمانينيات. وكان فى زيارة إلى القاهرة. وترك هذا اللقاء ذكرى لا تنسى. فهو رجل فكر وعمل بمعنى الكلمة. واسع الثقافة. واستطاع أن ينطلق من خلفيته اليسارية عضوا بحركة «آفاق» التونسية خلال الستينيات والسبعينيات الى رحاب رؤية إنسانية واسعة. وعندما ذهبت الى تونس بعد ثورتها علمت بأنه رحل عن عالمنا فى حادث مرور بالمغرب نهاية عام 2004. ولكننى فى إحدى زيارات تونس عدت بكتاب له بعنوان «التحرر من السجن» يعرض فيه تجربة حياته. وأيضا أفكاره عما يسمى أنسنة السجون وجهوده فى تأسيس وعمل المنظمة الدولية للإصلاح الجنائى .ولقد لاحظت أن مثل هذا التفكير يحتل جانبا من شواغل وأنشطة المجتمع المدنى على مستوى العالم عندما حضرت أكثر من ندوة بهذا الشأن فى المنتدى الاجتماعى العالمى بتونس فى مارس من العام الماضى . وكل هذا يعكس نظرة متقدمة إلى عقوبة الحبس وحقوق السجناء. ويدعو إلى الحاجة لعقوبات بديلة، وبخاصة فى الجرائم التى لاتستدعى مدد حبس طويلة .
واقع الحال أن التفكير فى حقوق المحبوسين احتياطيا والمحكومين بعقوبات سالبة للحرية ليس ببدعة يأتى بها القرن الحادى والعشرون أو حتى العشرين. فهذا التوجه متأصل فى الفكر الاجتماعى منذ قرون . وبما فى ذلك رفض نظريات الإجرام التى تعتقد بالعوامل الوراثية للانحراف وبحتمية السلوك الاجرامي، وكأن الإنسان مذنب حتى تثبت براءته . ولاشك أن ما ماكتبه الراحل أحمد عثمانى يثير بدوره شجونا عندما نقارن بأحوال السجون فى مصر. ولقد اضطرت فئة تعد عالية الصوت كالصحفيين على مدى الأيام الماضية أن تجأر بالشكوى عاليا ومن نقابتها مطالبة بتحسين أحوال نحو 27 صحفيا رهن الاحتجاز . وكلهم تقريبا على خلفية قضايا تحمل طابعا سياسيا. وثمة شكوى مريرة ترددت فى نقابة الصحفيين من التعنت فى علاج المرضى ومن أن اثنين من الصحفيين أصبحا مهددين بفقدان البصر. وهما الزميلان هشام جعفر وهانى صلاح الدين. ويوثق تقرير مجلس النقابة المقدم إلى أعضاء الجمعية العمومية فى مارس هذا العام جوانب من هذه الانتهاكات والمعاناة. ولقد طالبت النقابة عقب اجتماع مجلسها فى 27 فبراير الماضى وعبر اعتصام لاحق دام ثلاثة أيام بمقرها بتحسين ظروف حبس الزملاء الصحفيين وبتوفير الرعاية الصحية للحالات الحرجة. وأضافت الى الإسمين السابقين أسماء يوسف شعبان و محسن راضى ومحمود أبو زيد الشهير بشوكان وآخرين. وفى بيان للمجلس علاوة على المطالبة بالعفو عن الصحفيين المحبوسين إشارات مقلقة إلى منع النقيب وأعضاء مجلس النقابة من زيارة الزملاء فى محابسهم . وهو أمر غير معهود من قبل . كما أن من شأنه ان يحيط بالشكوك الأنباء الطيبة التى وردت أخيرا عن تحسن طرأ بعد كل هذه التحركات على معاملة الزملاء الصحفيين المحبوسين ونقل عدد منهم الى المستشفيات لتلقى العلاج.
ولكن يستوقف النظر على نحو خاص المطالبات المتكررة من الصحفيين ونقابتهم بتطبيق لائحة السجون سواء بشأن الرعاية الصحية أو غيرها من حقوق السجناء وذويهم .وهى حقوق يجب أن يتمتع بها كل السجناء. سواء أكانوا صحفيين وسياسيين أو متهمين وسجناء من غير الصحفيين والسياسيين وفى قضايا جنائية لا شبهة فيها للسياسة أو الرأي. ولقد بذل أحد أعضاء المجلس القومى لحقوق الإنسان مشكورا مساعيه منذ أيام للسماح لطالبة محبوسة فى سجن بورسعيد متهمة بالتظاهر بأن تجرى كشوف الغدة الدرقية. ولكن كم لدينا مثل هذه الطالبة من محبوسين فى مسيس الحاجة لعلاج ويفتقد أهلهم وذووهم إلى قنوات اتصال ووساطات لانقاذ حياتهم فى السجون وتوفير رعاية صحية مستحقة. وكم طالب وطالبة فى حاجة إلى قنوات ووساطات حتى تتوافر لهم ظروف الدراسة فى السجون . وعندى أسماء يقول أهلهم إنهم لم يتمكنوا من دخول امتحانات العام الماضى بسبب غياب أدنى الشروط اللازمة للدراسة، بما فى ذلك زنازين خاصة بالطلاب وحدهم تتوافر فيها الظروف والاضاءة المناسبة للاستذكار. ولقد استمعت أيضا من أهالى محبوسين وسجناء فى قضايا ذات خلفيات سياسية إلى شكوى مريرة من منع الزيارات أو ان تقتصر على دقائق معدودة. وكل هذا وذاك دفعنى إلى البحث عن لائحة السجون. وحتى فى ظل ما لحق بها من تعديلات عام 2014 تبين أنها تنص فى المادة 71على أن مدة الزيارة العادية والخاصة ستون دقيقة، قابلة للزيادة جوازا.
وبلاشك فإن المطالبة بحقوق السجناء والمحبوسين جميعهم فى الزيارات و الرعاية الصحية والاستذكار والدخول إلى الاختبارات والامتحانات بمختلف مراحل التعليم مجرد جانب فى قائمة طويلة .و لا يمكن ان نستثنى بأى حال الحق فى السلامة الجسدية والمعاملة الآدمية الكريمة غير الحاطة بالكرامة وفى الطعام اللائق والتريض والترفيه وفى التحقيق الجدى بشكاوى السجين ورفع المظالم. وطبعا فإن المناداة هذه الأيام بتطبيق لائحة السجون والوفاء بحقوق السجناء والمحبوسين بها لا تسقط أبدا المطالبة بتعديلات تقدمية على اللائحة و بالعدل وبالمحاكمات المنصفة أولا . ولعل هذا يقربنا يوما ما فى مصر من مناقشة قضايا مثل أنسنة السجون كما كان يدعو الراحل أحمد عثمانى وهو يجوب أنحاء الوطن العربى والعالم قبل رحيله عن دنيانا.