الشيخ صالح كامل
كوامل - التجارة والصراع مع الذات
وعلّنا اليوم نشاهد بوضوح ما تحفل به الإعلانات التجارية في الصحف أو الإذاعات أو محطات التليفزيون من غش ممنهج ومن حيل بارعة، تصوّر السلعة علي أنها نقية مكتملة
لقد رغبت الأديان عامةً وبخاصة السماوية منها، في اكتساب الرزق الحلال محذرةً من إكتساب الخبيث. والتجارة من المهن التي يمارسها الناس منذ القدم، وهي من أفضل طرق الكسب وأشرفها، وقد إمتنّ الله تعالي علي قريش بهذه المهنة، وذكر في القرآن الكريم رحلاتهم التي كانوا يقومون بها بين اليمن والشام.
ومما ينبغي أن يستقر في يقين المؤمن أن المالَ مالُ الله، وأن الناس مستخلفون فيه، وأنه ليس للمستخلف أن يخرج عن إرادة المالك ومقصوده، فإن فعل ذلك فَـقَدَ أهليته للاستخلاف. والشريعة التي يدين بها المسلم قد حَفّت التجارة بجملة من الضوابط التي من شأنها أن تجعل المسلم تاجراً نقياً بعيداً عن الجشع والأنانية.
روي الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : « أربعٌ إذا كُنّ فيك فلا عليك ما فاتك الدنيا، حفظ أمانة، وصدق حديث، وحُسن خليقة، وعًفَّةٌ في طعمةٍ «. وعِفّةٌ في طعمة : أي أن يتعفف في طعامه، وذلك بالحرص علي إكتساب الحلال والبعد عن الحرام والمتشابه.
وفي هذا الحديث الشريف حلول ناجعةٌ لمحاربة الفساد الذي باتت تشكو منه جميع المجتمعات إلا من رحم ربي. وعلَّهُ من تكرار الإشارة، الإشادة بأخلاق التاجر العربي المسلم، حين توجه بأخلاقه وأمانته إلي شرق آسيا، فأحبه الناس وتأثروا به، فانتشر الإسلام في أكبر قارات الدنيا دون فتوحات ولا غزوات ولا قتال.
ولاشكّ أن التاجر يُختبر إختباراً كبيراً في هذه الأمور الأربعة، ففي بعض الأحيان تظهر أمامه أرباح ومكاسب كثيرة فيها من الإغراء والإغواء، ما قد يدفع بعض التجار إلي الغش والكذب فيدخل في صراع مع ذاته، هل ينال هذا المكسب عبر وسائل ملتوية منافية للدين والأخلاق؟ أم يردد العبارة الحاكمة في الحديث الشريف : ( لا علي ما فاتني من الدنيا ) طالما أنه ملتزم بالأسس الأربعة.
الأول : ( حفظ الأمانة )
يتعامل مع تجارته والناس دون غش أو خداع أو مكر، أمين في مراعاة حقوق الناس.
ومن الناس للأسف الشديد من يتعامل مع الأمانة في حدودٍ ضيقة وفي أمور محدودة. فهو أمين مع الأمين، وخائن مع الخائنين !! وبالطبع ليس هذا من أخلاق المؤمنين. وفي حديث أنس بن مالك، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( أدِّ الأمانة إلي من إئتمنك ولا تخُن من خانك ). إن الغش في التجارة محرّم بكل صوره وأشكاله، لما يسببه من ضررٍ ولما فيه من خداع للناس. ومن صور الغش الذي نهي عنه الله تبارك وتعالي وتوعد ممارسيه بالعقوبة، التلاعب في الموازين والمكيال. قال تعالي : ( ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ). ومن صور الخداع وعدم الأمانة في التجارة إخفاء عيوب السلعة. وعن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله - عليه الصلاة والسلام - يقول : ( المسلم أخو المسلم، ولا يحلّ لمسلم باع من أخيه بيعاً فيه عيب، إلا بيّنه له ).
ومن صور الغش في التجارة تزييف البضائع وتقليدها، والإعتداء علي حقوق أصحابها، ذلك أن الحقوق التجارية والفكرية من إسمٍ وعنوان، وعلامة وإختراع، وتأليف وإبداع، هي حقوق خاصة لأصحابها، ولها في العرف المعاصر قيمة مالية معتبرة فلا يجوز الإعتداء عليها دفعاً للضرر الذي يلحق بمالكيها.
وعلّنا اليوم نشاهد بوضوح ما تحفل به الإعلانات التجارية في الصحف أو الإذاعات أو محطات التليفزيون من غش ممنهج ومن حيل بارعة، تصوّر السلعة علي أنها نقية مكتملة وهي في الواقع غارقة في التضليل والتمويه.
الثاني : ( صدق حديث )
أي أنه لايكذب بل يحافظ التاجر علي الصدق، إذا أخبرهم أن هذه السلعة جيدة، فيجب أن تكون فعلاً جيدة. ولقد نهانا المصطفي عليه الصلاة والسلام عن الكذب : (إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلي الفجور، وإن الفجور يهدي إلي النار ).
وبعض الناس للأسف تفسُدُ أخلاقياته في هذه المهنة، كلما زاد حرصه علي الدنيا.
ومن صور عدم الصدق في التجارة، الحلف الكاذب من أجل بيع السلع، قال الرسول الأمين الصادق المصدوق عليه وعلي آله الصلاة والسلام : ( اليمين الكاذبة مَنفَقةٌ للسلعة ممحقةٌ للكسب.) وكم أعجب من أناس يتعجبون من قلة البركة في أرزاق بعض الناس اليوم، وكأنهم لا يعلمون أن الأخلاق إذا بيعت من أجل ترويج سلعة.. فإن البركة لاشك معدومة في هذا البيع.
وعلّني أعود في لقاءات قادمة لأستكمل مع حضراتكم الحديث عما تبقي من الأسس الأربعة المربحة والحافظة لحقوق الناس والجالبة لرضا الله تبارك وتعالي، وهي حُسنُ خليقة، وعفّةٌ في طعمه.
أسأل الله أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، إنه ولي ذلك وهو علي كل شيء قدير.