يعتقد البعض، سواء من يصرح منهم بما يعتقد أو من يستغنى بالفعل عن القول، أن الديمقراطية بالنسبة لنا ليست مطلبا عاجلا،
وأن بالإمكان تأجيلها إلى حين، فإن كان لابد منها فبعض الديمقراطية يغنى عن بعض.. دولة نصف مدنية ونصف دينية تغنى عن دولة مدنية خالصة.. وبرلمان وسطى يقف بين الشعب والسلطة يغنى عن برلمان منحاز، والذى لا ندركه كله من الديمقراطية نؤجله، فالديمقراطية طريق لا نستطيع أن نقطعه بقفزة واحدة، وإنما نسير فيه خطوة خطوة، ونقطعه مرحلة بعد مرحلة، ولو نظرنا فى التاريخ لرأينا كيف بدأت الديمقراطية بداية بسيطة فى أثينا القديمة، وكيف تراجعت وتقدمت، وكيف تطورت عبر القرون حتى وصلت إلى ما وصلت إليه فى العالم الغربي.
الديمقراطية الإنجليزية بدأت فى أوائل القرن الثالث عشر بالماجنا كارتا (العهد الأعظم) الذى اعترف فيه الملوك الإنجليز بحق النبلاء فى المشاركة فى السلطة، ولم تكتمل بحصول بقية المواطنين على هذا الحق إلا فى القرن الماضي.
والديمقراطية ليست مجرد حق، ولكنها أيضا ثقافة تمكن صاحب الحق من استعماله بالطريقة التى يتحول بها من معنى مفهوم إلى واقع ملموس، فضلا عن أن الديمقراطية تجارب تطوع الواقع للأفكار، وتعدل الأفكار لتتوافق مع الواقع، فإذا كنا فى مصر لم نسمع بالديمقراطية إلا منذ مائة عام، بعد أن عشنا فى الطغيان عصورا طويلة، وإذا كنا لم نمارس الديمقراطية إلا فى لحظات قصار عدنا بعدها لحكم الطغيان، وإذا كنا لم نتخلص من الأمية حتى الآن.. كيف نستطيع أن نقيم ديمقراطية صحيحة مكتملة، خاصة فى الظروف الراهنة التى نواجه فيها الإرهاب المتوحش من ناحية، والأزمة الاقتصادية الخانقة من ناحية أخري؟ فى هذه الظروف الصعبة، هل تكون الديمقراطية هى مطلبنا العاجل؟ أم تكون الأولوية لضمان الأمن، وإنعاش الاقتصاد؟
هذه الأسئلة ربما أجاب عليها المصريون فى موقفهم من الانتخابات البرلمانية، الذى اختلف كثيرا عن موقفهم فى الانتخابات الرئاسية، لقد شاركوا فى انتخابات الرئاسة بكثافة لم يشاركوا بمثلها فى انتخابات البرلمان، وباستطاعتنا ـ والضمير عائد هنا على من يعتقدون أن الديمقراطية ليست مطلبا عاجلا ـ أن نفسر ما جرى فى الانتخابات بأن حاجة المصريين لرئيس تفوق حاجتهم لبرلمان.. حاجتهم لسلطة تضمن لهم الأمن ورغيف الخبز، تفوق حاجتهم لأن يكونوا مصدرا لكل السلطات.
كيف نفهم هذا الموقف السلبى من الديمقراطية؟ هل نفهمه على أنه تعبير عن فكر واقعى يبدأ مما يراه ويلسمه ويعترف به، سواء كان سلبيا أو إيجابيا، ويتخذه مرجعا له ولو خالف الذين يبدأون من النظريات، ويعتبرون الديمقراطية تجسيدا للقيم الإنسانية التى لا يقوم بدونها مجتمع، ويجعلونها مرجعهم فى الحكم على الواقع؟ أم نفهمه على أنه تعبير عن قوى ومصالح ومؤسسات لا تستطيع أن تعيش أو تضمن بقاءها، أو تحافظ على امتيازاتها إلا فى ظل الحكم المطلق الذى نشأت فيه، وارتبط وجودها بوجوده؟
لكى نجيب عن هذا السؤال ننظر فى الأسباب والحجج التى يسوقها هؤلاء السادة أيا كانت دوافعهم ليقفوا هذا الموقف السلبى من الديمقراطية فنقول: إنها لا تخلو من نظرات صائبة يجب أن نضعها فى الاعتبار ونحن نؤسس لنظام ديموقراطى صحيح، دون أن نسمح للبعض باتخاذها ذريعة لنفى الديمقراطية، والتهوين من شأنها، وتبرير الطغيان، وتجميل وجهه القبيح، واعتباره حلا عمليا، أو شرا لابد منه تلجأ إليه المجتمعات المهددة ليضمن لها حياتها وأمنها.
إنهم يتحدثون عن الديمقراطية التى بدأت فى اليونان قبل أربعة وعشرين قرنا ولم تكتمل فى إنجلترا إلا فى القرن الماضى، وبما أنها لم تبدأ عندنا إلا منذ بضعة عقود فى صورة ضعيفة، فعلينا أن ننتظر أربعة وعشرين قرنا حتى تكتمل وتستقر! منطق لا يختلف عن منطق الذين يريدون أن يعودوا بنا إلى عصور الظلام، لأن العصور الحديثة كلها ليست من صنعنا، فإذا أردنا أن نصل إليها فعلينا أن نكتفى بركوب الدراجة ونؤجل الطائرة حتى نخترعها!.
وأنتم ترون أن هذا ليس مجرد مجاز، وإنما هو واقع رأيناه فى المخلوقات البدائية التى تستعيذ بالله من الديمقراطية، لأنها شرك فى نظرها، وعلينا إذن أن نعود إلى ما كنا عليه فى أيام السخرة والكرباج، ولما لا؟ ونحن أحفاد الذين يقول عنهم الشيخ عبدالله الشرقاوى (أحد شيوخ الأزهر) فى رسالة كتبها ينافق فيها الوزير العثمانى «يوسف باشا بلغه الله ماشا» «وإن أهل مصر الغالب عليهم اتباع الشهوات، والانهماك فى اللذات، ولا ينظرون فى عواقب الأمور، وعندهم قلة الصبر فى الشدائد، وشدة الخوف من السلطان»!.
والشرقاوى يردد بلغته الركيكة ما سبق أن قاله المقريزي، وغيره من المؤرخين المسلمين عن مصر وعن المصريين، فأرض مصر عند المقريزى «تلد الجبن والشرور، وإذا دخلتها الأسود ذلت، وكلابها أقل جرأة من كلاب غيرها»! إلى آخر هذه الشتائم والسخائم التى ولدها خصب مصر وحضارتها فى نفوس العبرانيين والبدو فرموها بهذه التهم التى يتبناها المتاجرون بالدين والسلطة من المصريين، ويستخدمونها فى التخويف من الديمقراطية، والدعاية للطغيان!
ثم إن هؤلاء الذين يعتبرون الديمقراطية صناعة أجنبية نشأت فى الغرب، وتطورت فيه، لم يفسروا لنا هذا النجاح الذى حققته الديمقراطية فى الجهات الأربع، فى اليابان، والهند، وكوريا، وفى البلاد الاسكندنافية، وفى أمريكا اللاتينية، وفى جنوب إفريقيا والسنغال، فإذا كانت الديمقراطية قد بدأت فى مصر قبل أن تبدأ فى اليابان، وإذا كانت قد سقطت فى مصر وازدهرت فى الهند، فالسبب ليس ما ذكره المقريزى الكذاب، والشرقاوى المنافق، وإنما السبب هو الانقلاب العسكرى الذى أعاد مصر إلى ما كانت عليه فى عصور الظلام.
ويقولون إن الديمقراطية تحتاج للثقافة، والمصريون نصفهم أميون، كأن الثقافة لا تتحقق إلا بالقراءة والكتابة، وكأن الإنجليز والفرنسيين ولدوا يقرأون ويكتبون، وكأن الفلاحين المصريين لم ينحازوا لسعد زغلول ضد الملك فؤاد ولم يدافعوا عن دستور 1923، ولم يسقطوا حكومات الاستبداد فى العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضى.
نعم.. الثقافة شرط جوهرى من الشروط التى تتحقق بها الديمقراطية، لكن الثقافة لها أدوات وطرق مختلفة، والثقافة التى يتلقاها معظمنا بالاجتماع والاستماع والتفكير والمشاركة، لا تقل شأنا عن الثقافة التى يتلقاها بعضنا بالقراءة، فإذا كانت القراءة ضرورية فى هذا العصر للديمقراطية، فلا يصح أن تكون الأمية مبررا للطغيان.
وأخيرا نصل إلى قولهم: إن حاجتنا للأمن والخبز مقدمة على حاجتنا للديمقراطية التى يمكننا أن نتنازل عنها لمن يضمن لنا أمننا وطعامنا.. هذا القول يتجاهل فيه أصحابه أن مصادرة الحريات الديمقراطية هى التى فتحت المجال للإرهاب والفساد وللجوع والخوف، وأدخلتنا فى هذا المأزق الذى لن نخرج منه إلا بالديمقراطية، لأن الديمقراطية تفجر الطاقات، وتوقظ الضمائر،وتفتح الآفاق، وتجعل الجميع مسئولين عن الجميع أمام الجميع.
وفى ثورة مايو 1968 التى أشعلها الطلاب والعمال الفرنسيون ضد حكومة شارل ديجول، وشارك فيها الفيلسوف جان بول سارتر، اقترح وزير الداخلية على ديجول أن يقوم باعتقال سارتر، لأنه أصبح خطرا على الأمن، فنهره ديجول قائلا: «لا! فرنسا لا تعتقل فولتير!».
لكننا مستعدون لاعتقال فولتير، هو ومن يتعرض له!