الوطن
حسن ابو طالب
خفض الجنيه.. تخبط أم خداع أم ماذا؟
من الجائز والطبيعى أن يقوم بعض المسئولين بالإشادة بقرار معين يرونه يحقق المصلحة العامة. أما غير الطبيعى فهو أن تكون المبالغة والاستخفاف بعقول الناس هو الإطار العام لشرح قرار معين أو سياسة ما. ولا شك أن هناك أسباباً موضوعية كثيرة تجعلنا نتفهم، ولو جزئياً وليس بالضرورة نقبل طواعية، قرار خفض الجنيه المصرى أمام الدولار الأمريكى وباقى العملات الأخرى. ويمكن أن نلخص هذه الأسباب فى عاملين أساسيين؛ وهما ضعف الاقتصاد المصرى بوجه عام واعتماده على الموارد النقدية الأجنبية من أنشطة ذات طبيعة حساسة وقابلة للتغير والتبدل وفقاً لمتغيرات خارجية بالأساس، وأهمها السياحة وتحويلات العاملين بالخارج وقناة السويس وثيقة الصلة بحالة الاقتصاد العالمى وحركة التجارة العالمية بين الشرق والغرب. والعامل الثانى هو غياب سياسة نقدية منضبطة لا تخضع للمضاربات التى تبرع فيها بين الحين والآخر مافيا الصرافة وعدد من رجال الأعمال، وكلاهما يسعى للربح لحسابهما الخاص ضاربين بعرض الحائط المصلحة العامة وفى قلبها مصالح الناس البسطاء الذين يمثلون الغالبية الساحقة من المصريين.

وأعتقد أن غياب رؤية شاملة لإعادة هيكلة الاقتصاد المصرى، بحيث تقل فيه نسبة الاعتماد على المصادر الخارجية للعملات الأجنبية وتزداد فيه نسبة الاعتماد على عائد الإنتاج الكلى الصناعى الحقيقى بأشكاله الحديثة والتقليدية وكذلك الزراعى، يلعب دوراً كبيراً فى استمرارية الأزمة وقابيلة تكرارها بعد ستة أشهر أو عام على الأكثر. والسؤال هو: هل يمكن أن تؤدى قرارات البنك المركزى الأخيرة والمفاجئة التى أطاحت بقيمة الجنيه المصرى بنسبة 15% إلى معالجة جذرية، أم أنها من قبيل المسكّنات الوقتية وانصياع لتوجهات من مؤسسات دولية ووكلائهم فى الداخل والمنتفعين والمضاربين بالعملة المصرية على حساب جيوب الفقراء التى لم يَعُد فيها شىء؟

كان محافظ البنك المركزى فى حوار موسع له نُشر على نطاق واسع قبل ثلاثة أيام -ولكنه للأسف الشديد حُذف من أكثر من موقع إلكترونى بعد قرارات خفض الجنيه- أكد أن السعر المتداول للجنيه فى السوق الموازية لا يعكس الوضع الحقيقى للاقتصاد المصرى، وأن هناك أسباباً داخلية وخارجية وراء هذه المضاربة للإضرار بالوضع الداخلى، وأنه لن يكون هناك تعويم للجنيه كما يطالب البعض، وأن البنك سيتخذ مجموعة إجراءات لتصحيح الوضع وسيقوم بمزيد من الرقابة على مكاتب الصرافة. وكما لاحظنا أن هذه التصريحات القوية مع العطاء الاستثنائى الأول بقيمة 500 مليون دولار أدت بالفعل إلى انخفاضات متتالية فى سعر الدولار فى السوق الموازية بما يقرب من 75 قرشاً فى اليوم التالى لهذه التصريحات، فضلاً عن إجراءات فتح باب السحب والإيداع للأفراد بالدولار، وكان من الطبيعى أن تزداد نسبة الانخفاض أكثر إذا ما جاء عطاء دولارى آخر يطيح بالمضاربين ويعلمهم درساً قاسياً، ولكن ما حدث هو العكس، فكان الانصياع للمضاربين ومَن وراءهم. فكيف نصف مثل هذا السلوك، هل هو شفافية أم خداع أم تخبط أم ماذا بالضبط؟

والحقيقة أنه رغم ما جاء فى بيان البنك المركزى تبريراً للقرار المفاجئ، وتصريحات بعض رؤساء البنوك العامة الوردية ورجال أعمال لا تهمهم مصلحة المصريين فرحوا بزيادة مدخراتهم الدولارية مقومة بالجنيه فى غمضة عين، وتصريحات وزير التموين تحديداً وتأكيده عدم ارتفاع الأسعار، فإننى لم أجد ما يقنعنى بأن هذه الخطوة كانت مدروسة من كل جوانبها، بل هى نموذج للتخبط فى أعلى مستوياته. وإن لم يكن هناك تخبط وكان الأمر مُدبراً من أجل إرضاء مؤسسات دولية، خاصة البنك الدولى الذى سارع بدوره بالإشادة بقرار خفض الجنيه، فبالتالى فنحن أمام عملية خداع كبرى للمصريين، وهو خداع سيكون له ثمن هائل على الكبير والصغير فى هذا البلد. وكثيراً ما نحذر من أن حالة الاقتصاد قد تدفع الأمور إلى غير ما نبغى.

وسواء كان الأمر تخبطاً أو خداعاً، فإننا أمام حالة لا تبشر بالخير فى إدارة الدولة. ودعونا هنا نتأمل عدة نقاط قيلت فى تجميل القرار فى محاولة لتمريره وكأنه بلسم شاف لأوجاعنا الحياتية، كأن يقال إن خفض الجنيه سيزيد من التنافسية للسلع المصرية وبالتالى زيادة قدراتها التصديرية، وفى هذا القول الكثير من الاستهبال لأننا ببساطة لا ننتج شيئاً مصرياً خالصاً، فكل منتج مصرى يقبل التصدير يعتمد بالأساس على مواد تُستورد من الخارج، فإذا كانت هذه المواد الخام مقومة بالدولار المُغالى فى سعره مع بعض الإضافات من قبيل الدمغات والجمارك ومصاريف الشحن، فكيف بالله يمكن لسلعة مصرية هذا هو حالها أن تنافس فى التصدير للخارج؟

مقولة أخرى رسمية زائفة، ذلك أن خفض الجنيه سيزيد من تدفق الاستثمارات وكأن كل شىء يتعلق بالاستثمار فى مصر نموذجى ولم يكن ينقصه سوى خفض الجنيه وزيادة قيمة الدولار حتى يُغرى أصحابه للقدوم. وكلنا يعرف أن قانون الاستثمار الجديد لم يسهم فى تقليل درجة المعاناة التى يقابلها أى طرف يريد بالفعل الاستثمار فى مصر، وما زالت هناك مشكلات إدارية وقانونية مثل الجبال مطلوب حلها أولاً.

المقولة الثالثة للمؤيدين وهى أن خفض الجنيه سيمنع المضاربات من قبَل السوق الموازية، وسيؤدى إلى زيادة جاذبية البنوك الرسمية فى الحصول على العملة الأجنبية مثل مكاتب الصرافة، وفى هذا القول نوع من الاستخفاف بقدرة الدولة على ردع المخالفين واستخفاف بقدرة البنك المركزى على وضع ضوابط تمنع المضاربة، وكأن المضاربين هم الذين يحددون سياسة البنك المركزى وليس العكس، كما أنه قول مؤسف لأنه يساوى بين البنوك لا سيما الرسمية الكبرى التى لديها احتياطيات نقدية هائلة وبين مكاتب الصرافة التى لا تتعامل إلا فى حدود 3 إلى 4 فى المائة على الأكثر من تعاملات النقد الأجنبى ولا يمكن أن تكون لديها قدرات البنوك الرسمية.

أما المقولة الرسمية الرابعة، والفضل فيها لوزير التموين، فهى أن الأسعار لن ترتفع لأنها كانت مقومة فى الأساس على سعر الدولار المرتفع، وهى مقولة مُضللة بكل الأبعاد والمعانى، فبمجرد الإعلان عن تخفيض الجنيه ارتفعت الأسعار بالفعل، إضافة إلى ما كانت عليه من قبل من زيادة تم تبريرها سابقاً بأنها نتيجة ارتفاع الدولار فى السوق السوداء، وكأن علينا نحن المواطنين أن ندفع ثمن خيبة الإجراءات الحكومية مرتين؛ الأولى عند سطوة المضاربين، والثانية بسبب سوء التقدير من الجهات المعنية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف