نصف الدنيا
نوال مصطفى
ذاكرة الغفران
سافر «طارق» إلى لندن.. كانت الدراسة قد بدأت فى جامعة أوكسفورد، وكان عليه أن يوُجد هناك ليلقي محاضراته في مادتي الأدب العربي والأدب المقارن.

لم تصحبه «ليلى» في هذه السفرية، فقد كانت مشغولةً بتقديم أوراقها بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بعدما قررت الإقامة فى مصر والاستقرار بها، كذلك اختارت أن تقيم مع «شهد» في بيت العائلة بالسيدة، وألحّت على والدها حتى وافق بعدما رحّبت «شهد» بهذه الرغبة وفرحت بها.

«مصحة لندن لعلاج الإدمان» كانت وجهته الأولى.. لم تغب «جيسيكا» عن ذاكرته رغم تزاحم الأحداث في مصر وانشغاله حتى النخاع بـ»شهد».. كانت «جيسيكا» بوجهها الشاحب وعينيها الزرقاوين الناطقتين بالألم في آخر لقاء لهما قبل سفره، تظهر أمامه بين الحين والحين، كأنها صورة الضمير.

دخل غرفتها متلهفًا لرؤيتها والاطمئنان على حالتها بعد مرور شهور ثلاثة على آخر زيارة.. قابلته «جيسيكا» بوجه مبتسمٍ وملامح هادئةٍ.. كانت عيناها صافيتين هذه المرة بعدما تبدَّدت تعبيرات الألم على سطحها.

ارتاح «طارق» لرؤيتها ولإحساسه أنها تحسَّنت كثيرًا، وراوده شعور أنها قد شُفيت تمامًا، وبرأت من هذا البلاء الذى جثم على حياتهما وحياة «ليلى» طويلاً.

رحّبت به «جيسيكا».. ألقت الكتاب الذي كانت تقرأه جانبًا عندما رأته يدخل غرفتها.. لم تكن تعرف أنه آتٍ لزيارتها الآن رغم علمها بموعد سفره، فقد توقعت أن يأتي لزيارتها في اليوم التالي لوصوله، أما أن تراه أمامها بعد ساعةٍ تقريبًا من موعد وصول طائرة «مصر للطيران» القادمة من القاهرة إلى لندن فهذه كانت مفاجأةً حقيقيةً أضاءت الفرحة في قلبها من جديد.

- كيف حالك الآن يا «جيسيكا»؟ تبدين رائعة اليوم.

قالت وابتسامة عريضة قد ارتسمت على وجهها الآن:

- أنا فعلاً تحسنت كثيرًا، والآن أشعر أنني شُفيت تمامًا عندما رأيتك يا «طارق».

لم يرَها بهذا الصفاء وذلك الهدوء منذ كانت الحادثة السوداء في حياتهما.. احتضنها لدقائق وساد الصمت بينهما.. صمت ملىء بالكلام والعتاب والدموع.. صمت أشبه بالصلاة والتسبيح والسجود والشكر لرب العالمين، الذى أزاح المرارة والألم من قلب شفاف أقرب إلى قلوب الأطفال و الملائكة.

سألها للمرة الأولى السؤال الذي ظل يتردد داخله، وينغز مسام إحساسه:

- هل سامحتني يا «جيسيكا»؟ هل غفرتِ لي؟

أجابته بنظرةٍ عميقةٍ وعينان ترقرقت فيهما الدموع:

- نعم.. سامحتك يا «طارق».. أنا أحبك.

التقط كف يدها.. طبع فوقها قبلةً طويلةً وعميقةً، وأحسَّتْ بقطراتِ ماءٍ تنساب على كفها، فأمسكت رأسه بكفيها بحنان، وقالت:

- أتبكي يا «طارق»؟ أرجوك لا تفعل.. لقد نسيت كل شىء.. نسيت فعلاً.. ذاكرة الغفران أقوى من ذاكرة الإنسان.. والغفران قدرة نقتبسها من الغفار الأكبر.. الله يغفر لنا خطايانا وسيئاتنا، فكيف لا نقتبس من خالقنا أجمل صفاته؟

احتضنها «طارق» بقوة هذه المرة، وأجهش في البكاء كأنه ترك لمشاعره العنان، أو كأن بركانًا محمومًا مكتومًا يغلي بالألم ووخز الضمير قد انكسرت قشرته فجأة، فراح يُخرج ما بداخله من نار العذاب وصهده.

ركع «طارق» على ركبتيه أمام «جيسيكا»، ووضع رأسه على ركبتيها فى مشهد توسُّل ورجاء:

- أرجوكِ يا «جيسيكا» سامحيني من قلبك.. أرجوكِ.

ربتت «جيسيكا» على رأسه بكفيها الحانيتين، وداعبت أصابعها خصلات شعره دون أن تنبس بكلمة..

قامت من مقعدها لتعد كوبين من النسكافيه.. جلسا يتبادلان النظرات ويشربان النسكافيه ذا الرائحة الخلابة المميزة.

بادرت «جيسيكا» بالسؤال والابتسامة لا تزال مرتسمةً على وجهها:

- هل تنوي الإقامة في مصر يا «طارق»؟ «ليلى» أخبرتني بقرارها وأنا شجَّعتها عليه.. «ليلى» مصرية وأنت مصري، ويجب أن تعيشا هناك حيث التاريخ المبهر والجذور.

رمقها بنظرةٍ متسائلةً، وقال:

- وأنتِ يا «جيسيكا».. هل تأتين للإقامة معنا في مصر؟

هزَّت رأسها بالنفي، وقالت:

- لا يا «طارق».. أنت تعرف مرضي الثاني.. أنا مريضة بالوطن.. أنت تعلم ذلك جيدًا.

واستطردت، بينما كانت تقرأ عشرات الأسئلة المعلَّقة في عينيه:

- هناك خبر جميل أريدك أن تعرفه.. لقد وافق مجلس الجامعة على عودتي إلى التدريس بها مرة أخرى، بعدما قدمت شهادةً طبيةً معتمدة من المصحة وموقَّع عليها من خمسة أساتذة استشاريين بأنني برأت تمامًا من الإدمان، وأنه ليست هناك أية خطورة من وجودي الآن في الجامعة، وليس هناك ما يمنع من ممارستي مهنتي، وأوصوا بذلك وقالوا في تقريرهم إن هذا المناخ الصحي كفيل بإعادة تأهيلي بعد الشفاء، كما أن الحب الذي يربط بيني وبين طلبتي سيدعم قوتي النفسية، وسيجعلني أقبل على الحياة بالإرادة ودون الاستعانة بالكحوليات.

فرح «طارق» جدًّا بهذه الأخبارالمتفائلة، وامتلأ قلبه بالرضا وراحة الضمير.. تلك النعمة التى افتقدها طويلاً وها هى تعود إليه أخيرًا.

تهلَّل وجه «جيسيكا» فجأة عندما تذكرت الحملة المنظمة التي قادها طلبتها فى الجامعة، وكان لها الفضل الأول في صدور قرار مجلس الجامعة بعودتها إلى التدريس، وقالت:

- تصور يا «طارق».. الطلبة والطالبات شنُّوا حملةً جبارةً على الإنترنت، وجمعوا توقيعات زملائهم وطالبوا بعودة «المُدرِّسة المثالية».. هكذا أطلقوا عليَّ يا «طارق».. و....

قاطعها قائلاً:

- أنتِ فعلاً كذلك يا «جيسيكا».. أنتِ مثالية في كل شىء.. وإنسانة قبل كل شىء.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف