ناصر عراق
سيد درويش.. ابن المدن الحديثة!
في فوضى الارتباك السياسي وتوابع إقالة الزند وانهيارات الجسور المفاجئة نسينا أن نستعد بما يليق للاحتفال بذكرى ميلاد واحد من أعظم مبدعي مصر على مر العصور، إنه سيد درويش... القامة الباذخة في معمار الموسيقى العربية.
يمكن القول بيقين كبير إن كل من لحّن وغنى طوال القرن العشرين مدين بشكل أو بآخر لسيد درويش، من أول عبد الوهاب والسنباطي حتى الموجي والطويل وبليغ، فكلهم خرجوا من (مقام) سيد الموسيقى العربي الأول بلا منازع، فمن أين أتى هذا الرجل بعبقريته؟ ولماذا ظل سيد درويش حيا بيننا حتى الآن رغم أن يوم غد يوافق الذكرى الرابعة والعشرين بعد المئة لمولده، فقد أشرق على الدنيا في 17 مارس من عام 1892؟ ثم كيف نفسر حضور أغنياته المدهشة في وجدان الأجيال المتعاقبة، إذ يرددها الشباب في مناسبات مختلفة؟ وما السر في انتقال إبداعه الموسيقي من قرن إلى آخر بكل يسر وسهولة؟ ولا تنسَ أن نشيدنا الوطني "بلادي بلادي" من تلحينه.
في ظني أننا لا يمكن أن نفهم عبقرية سيد درويش (عاش 31 عامًا فقط) إلا في إطار فهمنا لتطور مدينتي الإسكندرية والقاهرة، اللتين تحررتا من أجواء العصور الوسطى وانتقلتا إلى دنيا المدن الحديثة مع نهايات القرن التاسع عشر، ولعلك تتفق معي في أن المدينة الحديثة هي التي تضم المصانع والشركات والبنوك والمسارح والصحف ودور اللهو إلى آخره، أي هي التي يوَجّه فيها إنتاج السلع والبضائع إلى السوق وفق قانون العرض والطلب كما يحدث في المدن الأوروبية التي دخلت عصر النظام الرأسمالي مثل لندن وباريس وروما وبرلين.
من هنا يمكن اعتبار سيد درويش ابنا بارًّا للمدينة الحديثة، وليس للريف أو الصعيد، فمجمل إنتاجه الغنائي موجّه إلى سكان المدن من الطبقتين الوسطى والصغيرة، حتى وإن شدا للباعة والعربجية والجرسونات، وبالمناسبة هل يوجد (جرسونات) إلا في المدن، حيث المطاعم والمقاهي والبارات!
لقد ولد في الإسكندرية عام 1892، تلك المدينة العالمية في ذلك الزمن، حيث كان يعمل ويقيم بها العديد من البشر الذين يمثلون جنسيات محتلفة، وقد هبطوا أرضها بفنونهم وعاداتهم وثقافاتهم، فتأثر بهم الصبي والشاب سيد درويش، وتلقى أصول الموسيقى في معهد إيطالي هناك، ثم غادر الإسكندرية وجاء إلى القاهرة عام 1916 بناء على نصيحة الشيخ سلامة حجازي، ولأنه يمتلك موهبة خارقة معززة بحس وطني رفيع فقد استجاب لثورة الشعب ضد الاحتلال البريطاني في مارس من عام 1919، وأطلق طاقاته كلها، يلحن ويغني ويرصد حركة المجتمع، منتبهًا إلى أن مصر عرفت طريقها نحو التقدم، وأن الموسيقى يجب أن تتخلص من إرث العصور المملوكية والعثمانية الغارقة في مستنقع الإقطاع والعبودية لتتوافق مع ذوق الإنسان في عصر المدينة الحديثة، ولا شك أنه أنصت جيدًا إلى الفرق الفنية الأجنبية التي كانت تتوافد على مصر لتقدم أعمالها في دار الأوبرا، فاستفاد وأفاد حتى أصبح المجدد الأول في الموسيقى العربية.
أجل... سيد درويش ابن بار للمدينة الحديثة في أبهى إنجازاتها.