وأنت تتابع الحملات المتضامنة والمتعاطفة مع وزير العدل المخلوع أحمد الزند، الملقب من أصدقائه والمحيطين به بـ"أسد القضاة"، لا بد وأن تقفز إلى ذهنك قراءات مختلفة أكثرها دقة لا يمكن أن يكتفى باعتبار هذه البُكائيات على الرجل مجرد مشاعر عاطفية من أناس يحبون تقدير "الرموز" أو يتذكرون "فضائل" بعضهم حسب قناعاتهم بمعنى الرموز والفضائل، لكنها تعبر فى جوهرها عن تنظيم متماسك لما يمكن أن نسميه "أبناء الأسد"، يتجاوز تأثيره التقليدى كأحد رجال القضاء الذين ظهروا للحياة العامة من خلال التنافس المستمر على خدمة القضاة فى إطار ناديهم، وإنما يمتد بتحالفات وثيقة مع إعلاميين وصحفيين ومحامين ورجال أعمال وحزبيين ونواب فى البرلمان وجمعيات وفاعلين فى المجال العام، وقد يمتد هذا التحالف إلى خارج الحدود بعلاقات إقليمية، تشير دلائل كثيرة إلى توثقها على مدار السنوات الأخيرة الماضية.
هنا تتجلى الصورة، فالرجل الذى تراه قاضيًا ورئيسًا لنادى القضاة ثم وزيرًا للعدل، يراه أبناء التنظيم غير ذلك، فهو كما يطرحون زعيم سياسي مكتمل، تتطابق أجندته مع خطابهم تماما أو ربما يخدم خطابهم أجندته، بمحاولات تصويره وكأنه الزعيم الحقيقى لـ30 يونيو، أو المتصدر الرئيسى فى مواجهة الإخوان، وبالتالى تعد إقالته، تنكرا للزعيم ودوره وخدمة للإخوان على نحو ما يطرحونه.
ولأنه تنظيم مكتمل المعالم، ما يدور داخله أكثر مما يدور خارجه كأى تنظيم سرى، فقد بدا خطابهم المنزعج والمُبَاغت، ينتمى تماما لخطابات التنظيمات السياسية فى لحظات تهديد الوجود، ويذكرك مع فوارق إجرائية بذات انفعال تنظيم الإخوان منذ بدأت إرهاصات عزل محمد مرسى، وأثناء العزل وبعده.
تنظيم أولاد "الأسد"، بدأ بمقاومة النَّيل من مرشدهم، بمجرد أن سقط سقطته اللفظية، بمحاولات سريعة وحثيثة لإنقاذه، واحتواء الغضب الذى جاء كقشة قصمت ظهر البعير المراكم عليه خطايا سياسية وحقوقية هائلة، وحين أبلغهم الزعيم بأن الدولة طلبت منه الاستقالة، على نحو ما طلبت بدعم جماهيرى من مرسى الانتخابات المبكرة، ثارت ثائرتهم، وحاولوا حصار قرار الدولة بضغط مضاد على طريقة "هنولع البلد"، بالدعوة للاحتشاد فى نادى القضاة وعند منزل الزعيم، والتهديد باستقالات جماعية فى صفوف القضاة، وترك المنتدبين فى وزارة العدل لوظائفهم، فى محاولة واضحة لشل الدولة وتعطيل مرافقها، لا تختلف عن محاولات الإخوان فترة عزل مرسى إثارة الفوضى إلا فى الشكل، لكن يبقى المضمون واحدا.
كأى تنظيم سرى يتبادل أعضاؤه الإشارات، ومثلما كانت تفعل قناة "الجزيرة" مع الإخوان، تصدت برامج محلية لذات الدور بانتماءات مذيعيها وأصحاب القنوات لتنظيم أولاد "الأسد"، بتمرير رسائل الاحتشاد ومقاومة قرار الإقالة، أحد هؤلاء قال على الهواء مباشرة: إن القضاة غاضبون وأكثر من 200 قاض من القضاة "الشرفاء" بدؤوا الاحتشاد فى ناديهم، والبعض فى طريقه لإحضار المستشار من منزله فى التجمع، وفى انتظار بيان، وآخر دعا القضاة بوضوح إلى الوقوف بجانب الزند وعدم السماح بما وصفه "إهانته".
ضد من هذا الوقوف وهذه الإجراءات التى جرى التلميح والتهديد بها ـحتى لو لم تحدث فى النهاية- ضد الدولة، لكن وهم يتحدثون عن الإهانة لم يتطرق أحد منهم إلى أن الرجل طلب منه أن يستقيل ويخرج بكرامة، لكن إحساسه كزعيم، وترتيباته وأعضاء تنظيمه، وظنه أنه يستطيع الضغط على الدولة بقوة تنظيمه وأثره ونفوذه، وشعوره أنه وقيادات الدولة أنداد على مستوى الزعامة والسياسة، كل ذلك دفعه لرفض الاستقالة، معتقدا أنه قادر على لىّ ذراع الدولة وإرغامها على تغيير قرارها أو تأجيله ريثما يرتب أوراق قوته من جديد، لكن "الانقلاب" باغته بقرار إقالة واضح وصريح ومُهين وغير مسبوق.
لا تتعجب من كلمة "الانقلاب" فهذا هو المعنى الوحيد الذى يتحرك تنظيم الزند فى إطاره تماما كما تحرك تنظيم الإخوان بعد عزل مرسى، هنا يُعاد توظيف ألفاظ الانقلاب والشرعية وهذه المرة لصالح الوزير المخلوع، بالشكل الذى لم يبق فيه أمام بكائيات رفض عزله وامتداحه والتحسر عليه، وتهديد الدولة من عواقب "غدرها" به سوى رفع شعار "الزند راجع" وتشكيل تحالف جديد لدعم شرعية الزند، باستدعاء الدستور الذى لم يكترث به الزند ولا تنظيمه مرة واحدة منذ تم الاستفتاء عليه، للادعاء بأن عزله مخالف للدستور، وبالتالى فهو رغم قرار الإطاحة يبقى وزير العدل "الشرعى"، وكما تعلم فمسألة عزله دستوريا فيها قولان دستوريان كبيران.
لكن التنظيم المتباكى على الدستور، لم يذكر الدستور مرة حين حرض زعيمهم على قتل عشرات الآلاف، ولا حين دعا لمعاقبة الآباء على جرائم أبنائهم، تماما مثلما تحدث الإخوان عن شرعية رئيس كان أول من أطاح بأسس الشرعية بإعلانه الدستورى، الذى كان المحطة المفصلية فى انهيار مشروع "يناير" الديمقراطى، كذلك لم يتذكروا الدستور فى الإطاحة بتوفيق عكاشة، وكان أيضا أحد "زعماء" 30 يونيو، وأحد مقاومى الإخوان فى الشارع وعلى الشاشة.
يبكى هؤلاء على ما يرونه "غدرًا" بزعيمهم المفدى، يستندون لمواقفه من الإخوان ويعتقدون أن عزله لا يُفرح إلا الإخوان و"الخونه" حسب تعبير أحدهم، بينما لم يبكوا على عزل وزير الداخلية السابق محمد إبراهيم، وقد كان يُحارب الإخوان أيضا وعلى قوائم الاغتيال وتعرض لواحدة بالفعل كادت تقضى عليه، لم يقيموا المناحات لعزله، كما لم يفعلوا مع كل الوزراء السابقين منذ 30 يونيو، ولا إبراهيم محلب رئيس حكومتين حاربتا الإخوان بشكل منهجى وعدائى أيضا.
مثل الإخوان تماما حين انتصرت فى وعيهم قضية التنظيم قبل قضية الديمقراطية وحمايتها، انتصرت قضية التنظيم فى وعى أبناء "الأسد" على قضية الدولة. بقاؤه ومصالحه ونفوذه، لكن تنظيم الإخوان عقائدى لديه على الأقل فكرة نختلف معها ونواجهها، بينما تنظيم "أولاد الأسد" تنظيم مصالح انتهازى، كان وما زال يسعى للسيطرة على الدولة وخطفها، وشرعنة كل فساد وتجاوز وانتهاك وفجاجة، ويستخدم فى ذلك كل أدوات التنظيمات المترابطة من تربص بالخصوم ودفاع عن قادة التنظيم ومحاولة إنقاذهم من "شرور أعمالهم"، والمعركة مع هذا التنظيم ما زالت مستمرة، لم يوقفها تراجعه على مضض عن خطابه، بسبب جبنه أو خوفه من استمرار الخسائر فى صفوف التنظيم، ولا حتى مغادرة الزعيم المُلهم المرشد إلى دبى فى "حجة" تبدو طويلة، ربما لتخزينه لمستقبل ما زال غامضا.