الوطن
سهير جودة
مواقع التقاتل الاجتماعى
ما بين سندان إعلام يقوم بقصف عشوائى كل ليلة، وما بين مطرقة مواقع تقاتل اجتماعى تتدفق فيها سيول نارية مدبرة وفضائح مصنوعة تقوم بتأليفها وتلحينها وتوزيعها وإخراجها، وما بين نار تلد ناراً، وما بين جمر تحت الرماد يعيش الوطن زمن الانجراف نحو الشر ويركب قطار الأكاذيب المجنونة ويركض فى اتجاه التربص وإغلاق نوافذ المنطق ويعلن انهياراً صاعقاً للأشياء، فهل خلع الوطن أحلامه ومشاريعه وارتدى خيباته وتفرغ للحرائق بكافة أشكالها واتجاهاتها؟

ففى كل ليلة تولد قصة يسوقها الإعلام للناس وينشغلون بها، صحيح أن أغلب الإعلام لا يخترع القصص ولكنه يركز عليها ويكبرها ويضخمها ويصدرها وكأننا أنجزنا كل القضايا الأهم ولم يتبق لنا سوى رفاهية الاستغراق فى قصص تافهة وبعضها مفتعل.

وفى زمن إعلام المقاولات لا أحد لديه استعداد لبذل مجهود من أجل الحصول على منتج إعلامى مفيد وراقٍ، فالإعلام ينساق بقوة نحو قصص النميمة السياسية والقضية الاجتماعية والمشاجرات والحوادث وزلة لسان مسئول.

حتى كأننا نبدو على هوس بهذه الحياة أو كأن الوطن يعيش حالة من الإغماء طويلة مع فشل كل محاولات الإفاقة فيأخذنا فضول النميمة فنغرق فيها وتصبح هى متن الحياة، أما العمل والإنجاز فهو الهامش.

ويبدو أن الإعلام أصبح يمارس الإرهاب فنجد وزيراً يبرر ويطلب السماح على شىء لم يقله وإنما مواقع التواصل الاجتماعى نجحت فى إرهابه فاهتز بل واهتزت الدولة ليأتى القرار الخطأ فى التوقيت الخطأ للسبب الخطأ، فنحن لا نعرف إذا كان الوزير أصاب فى مهمته ونجح فيها أم فشل، ولكننا نتوقف فقط عند خطأ لفظى لم يقصده، فالمعيار دائماً معتل ومختل، نحن مثلاً نعرف جميعاً ونتداول القصص عن النائب الذى أسقطت عضويته والنائب الذى ضربه بالحذاء ولكننا لا نعرف شيئاً عن لائحة مجلس الشعب وربما لا يعرف أغلب أعضاء هذا المجلس ما هى القضايا التى يجب أن تكون أولوية أولى، ولا يعرفون ولا نعرف نحن بدقة هل هم مؤهلون لمناقشتها وهل لديهم علم ودراسات وفهم لأبعادها وإيجاد حلول لها..

نحن نتعاطى يومياً جرعات مكثفة من الهيستريا والجنون تختلط فيها المعايير، وبالتالى أصبحنا فاقدى الأهلية فى الحكم على الأمور، نرى كل شىء بعدسة مكبرة وبميزان مختل وترتبك الأولويات وأفعالنا هى رد فعل لأفعال تافهة أو أشياء بلا قيمة.

وأضافت مواقع التواصل أبعاداً أكثر هيستريا للمشهد الإعلامى المصرى فقد أخذت هذه المواقع كل موبقات الصحافة من عدم الدقة والأكاذيب والإثارة المنبوذة وصناعة الفضيحة وأضافت عليها موبقات أخرى أهمها حفلات الندب الجماعى ولم تأخذ الأدبيات الصحفية التى استقرت.

العيب ليس فى الوسيلة وإنما فى استخدامها، والمصيبة أن هذه المواقع بأكاذيبها وفضائحها وزيفها ورداءة أخلاقياتها أصبحت مادة رئيسية للإعلام، وهذه المواقع أصبحت أشبه بالسولار الذى يرمى على نيران المجتمع المشتعلة ليحولها إلى محرقة فنبدو كمجتمع فقد عقله، وبالتالى فهو لا يفكر سوى بأعصابه المحترقة أو القابلة للاشتعال طوال الوقت، يفكر بانفعالاته ويحكم بانفعالاته وإذا حضر الانفعال غاب الصواب. لقد أدخلنا الزيف بكل أشكاله بحار الشك العظيم وكثرة الأشياء المزيفة تفقد البشر حس الإحساس بالحقيقة أو فى أفضل الأحوال يتضاءل الإحساس بالصدق ويحل محله الشك فى كل شىء فلا نميز بين الصدق والكذب ولا بين الخطأ والصواب فأصبحنا نتعامل مع الفوتوشوب وكأنه حقيقة دامغة.

فقدان الثقة فى كل شىء يقودنا نحو التيه ويدخلنا فى حالة مدمرة اجتماعياً، ومؤكد أن هذا المحتوى الذى يقدمه الإعلام ومواقع التواصل يكشف هشاشة المجتمع، فالمجتمع القوى يقدم محتوى بنفس القوة والإيجابية ويعلن أنه خالٍ من الأمراض المستعصية، فالمقارنة بين المحتوى العربى على الإنترنت والمحتوى الدولى هى مقارنة كاشفة لفارق التخلف والتحضر من حيث الإنتاج والنوعية.

فنحن على مستوى العالم العربى أصحاب المحتوى الردىء والمهترئ والرخيص والكاذب وغير الدقيق وحالنا فى العالم الافتراضى يتشابه مع الواقع والمسافة شاسعة بيننا وبين التحضر، فنحن نشبه الدول المتحضرة شكلاً.. نركب الطائرة وتستخدم التكنولوجيا ولكننا لم ندخل عصر الحضارة بعد، فلا نحن نصنع طائرة، ولا نحن نصنع تكنولوجيا، نحن نستخدم إنجازاتهم ونحارب ونقاتل بعضنا البعض ونتشاجر ونعلن الوفاء والانتماء إلى زمن الفتن وتتناحر المذاهب لأنهم يريدون لنا التناحر والمذهبية لتنشط مصانع السلاح لديهم وندفع نحن الفاتورة ليستمدوا كل يوم قوة جديدة ونضيف نحن إلى ضعفنا وهناً جديداً، نحن نستخدم السلاح ولا نصنعه بل نستخدمه حيث لا يجب أن يستخدم وربما كانت مواقع التواصل التى جعلناها مواقع للتقاتل أحد الأسلحة التى يعرفون أنها ستقضى علينا وستشهر إفلاسنا فى الإنجاز والأخلاق فأثرياء الكلام فقراء الأفعال.

فمتى سيكون لنا موعد مع الإفاقة والانتباه، ومتى نواجه أنفسنا؟ أم أننا سنبقى كتلاً عصبية وعقليات عصية على الفهم والإدراك وأهم إنجازاتنا الكلام والتعارك فى الواقع وفى العالم الافتراضى.

قبائل قتلت قبائل وثعالب أكلت ثعالب.. جملة نزار قبانى الشهيرة التى ستبقى صالحة لتشخيص حالنا العربى الأمس واليوم وغداً.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف