نبيل فكرى
مساء الأمل .. منذ أن غاب العيد
أتحسب كثيراً مارس. ففيه عيد الأم. وعلي الرغم من أن ثلاثة من أسرتي يحتفلون بأعياد ميلادهم في مارس. إلا أن ذلك لم يمنعني من التحسب. وربما إغماض عيني وحواسي حتي يمضي هذا الشهر.. ليس بالإمكان قطعاً الاستماع إلي "ست الحبايب.. يا حبيبة" إلا إذا كنت علي استعداد لبكاء جارف وسخي. فالسنوات العشرون لم تنسني هذا العالم الذي اختطفته يد الموت سريعا.
حين يسألني سائل عن أمي. أقول كأنها كانت تشعر بالخدعة.. يوم جاءت وعدها مستقبلوها بألف عام. وحملوها صنوف المحبة والصبر لتنفقها طوال الألفية. لكنها ما أن فطنت لعقلها. أسرفت وأنفقت كل صنوف الحب تلك في أعوامها الأربعة والأربعين.. كانت تنثر الحب أينما حلت.. تنثره حتي وهي نائمة. ولأنني وإخوتي فلذات الأكباد. كان لنا نصيب كبير وحب فوق احتمال القلب.
ما أهون الورق والأقلام ومن يكتب ومن يقرأ في حضرة أمي.. ما أشقي السنين بعدها. فقد كانت نظرة واحدة منها أكثر إشراقا من نظرة الشمس علي الدنيا.. كل شيء كان محتملا في وجودها.. كل شيء كان هينا طالما انها تبتسم.. كل الأحلام كانت علي ركبتيها. وكل الأماني تتساقط من يديها.. وكل الدعاء وكل النجاح.. بعدها لم يعد شيء كما كان.. أفيق فجأة علي حقيقة انها لم تعد موجودة. وإن زارتني في أحلامي فالمضمون واحد. وهو أن أكتشف انها لم تمت. أو أنني أخبئها من تلك اليد التي اختطفتها فجأة.. ثوان تجود عليّ بها الأحلام. هي أروع من أيام بطولها في دنيا بلا أم.
زمان.. حين كنا صغارا. وفي مناسبة عيد الأم تلك. وفي أيام الضنا وقلة ذات اليد. كنا نتشاجر مع أمهاتنا صبيحة ذلك اليوم. فقد طلبوا منا في المدرسة أن نحضر الهدايا التي سنقدمها لأمهاتنا. وغالبا لم يكن لدينا ما نقدمه. وليس لديهن حاجة إلي شيء.. كنا نحن الهدايا. ولم ندرك نحن أنها الهدية والتاج وكل الحياة. وكانت الأم تطوف يمنة ويسرة في الشارع باحثة عما يرضينا. وكأنها في "مسعي هاجر" تبحث عن الماء لوليدها. وتعود إلينا بشيء استعارته من جارة أو خالة. لنعود آخر اليوم ونهديه اليها.. كم كنا سذجا. وكم كانت شامخة عطوفة سخية.
حين أكتب عنها. أعيش تلك الحالة كل مرة. وأوقن أنني لا أجيد الكتابة علي الاطلاق. وأنه لم يكن لائقا بي أن أعمل في مهنة الصحافة. فلا كلمة تليق بها ولا حرف يوازي بعض أنفاسها.. أمي لم يعد يليق بها سوي البكاء.. وحده القادر علي أن يمنحني المحبة والراحة. ولا أدري كيف نما هذا الاحساس بداخلي. فلا شيء يريحني مثل البكاء لأجل أمي.
أعلم أن مارس رمز واختراع. وأوقن أن أيام أمي ليست كحال السنوات الكبيسة أو غيرها.. ليست 365 يوما.. سنوات الأم من تقويم القلب الذي يتدفق شلالا بالمحبة والرضا.. عام من أعوام الكون يتضاءل في إغفاءة علي ركبتيها.. عام من أعوام الكون يمر ومضة وهي مقبلة عليك تناديك يا "ضنايا".
أقررت قبلا أن الموت أجمل بعد أمي. وهو اقرار كالعهد أجدده حين أذكرها. وحين أمر بقبرها القابع هناك في بلدي. أسفل نافذة بالمعهد الديني الذي كنت أدرس فيه. فالتقي ما أحب بمن علمني الحب. وأحيانا أشعر أنها تدرك المكان. فتنادي كل مساء علي تلك الاطياف السابحة من زمن مضي. في فضاءات حب لا تنتهي. أشمها في التراب حول قبرها. وكأنها من خرجت في الصباح كما كانت تفعل ونحن صغار فنثرت ماء الورد في استقبال القادمين.
أيها المنعمون بأمهاتهم.. أيها الهانئون في أحضان الحب والدفء والسعادة.. أيها السعداء بالنداء وبالإجابة.. أيها المختالون بأمهاتكم.. لا تفوتوا الفرصة كلما حانت ولو كل ثانية.. قبلوا الأيادي والأقدام. وقفوا علي الأعتاب كل يوم. فلو علمتم كم نغبطكم نحن "اليتامي" لما تركتم أمهاتكم لحظة.
أما أنت ياأمي.. فكل يوم وأنت في القلب.. كل لحظة وأنت معي.. كل عام وأنت كل الخير. فكل ما أنا فيه.. كل شيء.. مجرد دعوة استجابتها السماء.
** ما قبل الصباح:
أيها المحرومون المشتاقون مثلي: لا شيء سيسعدكم مثل البكاء.. ولا أحد يستحق البكاء مثلها.