فى تسعينيات القرن الماضى أذكر أننى شاهدت فيلمًا أمريكيًّا يسمى شارع السلخانة. لست متأكدًا إن كان للمخرج العبقرى الأمريكى الجنسية الروسى الأصل نيكيتا ميخالكوف، أم لغيره، فقد بحثت عنه على شبكة الإنترنت تحت عنوان Slaughterhouse street فلم أوفق فى العثور عليه. فى فيلم سلوترهاوس ستريت تفاجئ الغارات الألمانية الليلية مواطنًا روسيًّا، مطابقًا للمواصفات، يسرع الخطو عائدًا لشقته البائسة التى تقع فى بدروم بشارع السلخانة، كان يرى من نافذتها، مستلقيًا على فراشه فى كل صباح، أقدام الحيوانات التى تقاد للذبح مستسلمة لمصير تجهل بشاعته. فى تلك الليلة الممطرة، وخلال الغارة الجوية العنيفة يلمح تمثالاً نصفيًّا من البرونز الثقيل لزعيمه المفدى المرعب ستالين، يرقد على أرض فناء مدرسة مجاورة لبيته، بعد أن أسقطته قذيفة معادية من فوق قاعدته الحجرية.
يتردد المواطن الشريف لحظة، لكنه يسرع بعدها بكل ما أوتى من قوة، بدافع من الإخلاص الممتزج بالخوف، ليجر تمثال زعيمه نصف الإله، الذى لا يطاوعه قلبه لكى يتركه فى الوحل، ويأخذه معه إلى شقته. يتهيأ الرجل للنوم بعد كل ما بذله من جهد رهيب، لكن ضميره يؤنبه بعنف: كيف يسمح لنفسه بالنوم فى الفراش بينما يرقد زعيمه المفدى على الأرض هكذا؟ ينتهى الأمر بأن يرفع الرجل تمثال ستالين وينيمه على فراشه، ويستلقى مكانه راضيًا على البلاط.
لا تبتسم هكذا منتصرًا وراضيًا وتظن أن المجتمعات الرأسمالية الغربية لا تحكمها هى الأخرى آلة دعائية مخابراتية جبارة، لا تقل سطوة عن مثيلتها فى الأنظمة الشيوعية القديمة. لكن دعك منهما الآن وانظر لحالك وأنت تعيش فى تلك البقعة من العالم التى تمتلئ بالفاشية والبارانويا والعبث، ويفتش فيها مراقبو الجودة الاجتماعية فى ضمائر الآخرين. أنت محاط يا عزيزى بأجواء عدائية هستيرية، يسعى فيها الشرطى ورجل الدين والإعلامى المرتزق والمواطن الشريف إلى تنميط البشر لكى يرضخوا للدخول فى ماكينة إعادة التدوير. مراقب الجودة الصناعية يلمح المنتج المختلف بعينه الفاحصة المدربة، ويلقى به مسرعًا إلى صندوق إعادة التدوير، قبل أن يبتعد فوق سيور خطوط الإنتاج المتحركة، ويختفى بين صفوف المنتجات المطابقة للمواصفات. بالمثل تمامًا يفعل مراقب الجودة الاجتماعية اليقظ الذى لا يترك المواطن غير المطابق للمواصفات القياسية، التى تعتمدها السلطة، يفلت من قبضته ويختفى فى المجتمع لينشر سموم اختلافه فى عقول الآخرين.
ضابط الشرطة لا يوقفك فى الكمين ليفحص أوراقك ولكن ليفحص أخلاقك وقناعاتك ويتأكد من مطابقتها للمواصفات التى يحملها فى رأسه قبل أن يسمح لك بالمرور. شيخ المسجد يظن أن دخولك إلى دار العبادة يعنى أن تخلع رأسك وتضعها بجوار الحذاء فى المربعات الخشبية المفتوحة التى تجاور المدخل. الإعلامى المرتزق يؤدى دوره اليوم بإقناعك بشىء محدد ثم لا يجد أى مشكلة فى محاولة إقناعك بنقيضه فى الغد. كذلك المواطن الشريف المخدوع الذى يعشق السلطة، ولا يدرى أنها تخونه مع آخرين، لا يهمه إلا أن يثبت لك طوال الوقت أنه يمتلك صكوك الوطنية وأنك يجب أن تكون ممتنًّا له لأنه يريد أن يتكرم ويختم صورة الزعيم على قفاك.
كل من يعيشون فى شارع السلخانة يكتشفون فى نهاية المطاف أنهم كانوا يُقتادون إلى الذبح كل صباح مع القطعان المهرولة، التى يشاهدون سيقانها فقط من نوافذ حجراتهم.