محمد جبريل
العامية.. خطر علي الفصحي!
شاهدت في مدينة المهدية التونسية عرضاً مسرحياً اسمه "وشم الريح" من تأليف وإخراج الاديب والشاعر والمسرحي ناصر كسراوي.
أعجبت بالعرض. وإن لم أفهم شيئاً. أو في الاقل لم أفهم معظم ما تبادله الممثلون من حوار. لقيامه علي العامية المحلية.
القصة- كما يقول التقديم- عن رجلين يجمعهما وجع التذكر في مكان منعزل حول بقايا سفينة عظيمة. وبقايا شباك ممزقة في ليلة شتاء عاصفة. يجمعهما الماضي المشترك والحلم الضائع والزمن العصيب. ليمضي بهما العرض المسرحي إلي مساءلة النفس أولاً. ومحاورة الاشياء الدالة عن وجودهما في ذلك الموقع الغريب. تعبيراً عن مصير مشترك. ينتهي بهما إلي جلد الذات.
الاخراج والديكور والاضاءة وأداء مجموعة الممثلين.. ذلك كله يستحق الاعجاب بالفعل. مع أن العرض لهواة.. لكن المقولة. ودلالة العمل. بدت كالسر. كاللغز المستعصي. في اللهجة التونسية التي تحدث بها الممثلون.
وإذا كان البعض يدعي أن الافلام والمسلسلات والمسرحيات قد أتاحت لشعوب المنطقة العربية أن تجيد التحدث باللهجة المصرية. فإني أخشي أن ذلك الدعاء ينطوي علي قدر كبير من الثقة المسرفة بالذات. ذلك لان الفهم يجاوز المفردات إلي المعني الكلي. إلي السياق العام للعمل الفني. ومحاولة وصل ما يفهم بما لم يفهم. وربطه بأداء الممثلين. بحيث تتشكل في النهاية دلالة الموقف الذي يقصده العمل.. أنت تخاطب تونسياً. فتضطر للتخلي عن لهجتك العامية وتخاطبه بالفصحي كي يفهمك. ويفعل هو الامر نفسه. وتصبح الفصحي هي لغة التخاطب الوحيدة!
حاولت أن أتحدث بالعامية المصرية. فطالعتني نظرات متسائلة. أو استئذان في الاعادة الامر نفسه فعلته عندما اختار محدثي لهجته المحلية.
لم تعد الفصحي- كما قال شوقي- تخشي عامية أزجال بيرم التونسي. فالعامية هي الغالبة علي حواراتنا. حتي لو كان النقاش عن الفصحي!
بعيداً عن القنوات الفضائية المصرية. التي تقتصر فيها الحوارات علي العامية. فلعلي أثق أن القنوات الفضائية العربية ستفرض الفصحي- ذات يوم- علي الناطقين بالعربية- لا أحد يفهم الاخر. فهو يستبدل بلهجته لغة العرب الجميلة. وما يبدو صعباً أو أننا نهمله. سيصبح وسيلتنا الوحيدة للتخاطب للتخاطب.
العربية هي التعبير الاهم عن العروبة التي ننتسب اليها. بالاضافة- طبعاً- إلي التاريخ والأرض والمعتقدات والعادات والتقاليد. ومن غير المتصور ان تظل لغتنا الواحدة متشظية في لهجات تفرض الذات الضيقة والغربة وعدم الفهم.