الأهرام
السفير معصوم المرزوق
النظرية المصرية فى الارتداد
كنت أود أن أستكمل سلسلة مقالاتى عن «التجربة الصينية» والتى بدأتها بمقالين متتاليين على مدى أسبوعين ، لولا أن «التجربة المصرية» التى تتفاعل كل يوم أمام عيوننا جذبتنى بشدة كى أتأمل إحدى زواياها..

فإذا كانت التجربة الصينية هى استكمال الانتقال الصينى من مجتمع زراعى بدائى قبلى إلى مجتمع صناعى يندفع على طريق الرخاء، فإن «التجربة المصرية» تبدو بالمقارنة نموذجاً فى الارتداد إلى مرحلة ما قبل الحضارة، أو حياة البداوة والعصبية القبلية..

لم يعد الأمر مقصورا على قبيلة الأهلى وقبيلة الزمالك وصراعهما الممتد مثل صراع داحس والغبراء، فقد انقسم المجتمع المصرى إلى مجموعات مختلفة من القبائل شهدنا بعضها فى قبائل الإعلام التى يحمل كل منها علماً ويعكس اتجاها لحفنة معينة من رجال المصالح والأموال، بل يكفى أن نذكر ما حدث مؤخراً عندما غضبت قبيلة «العدل» غضباً كبيراً، بمجرد تسرب نبأ إقالة السيد المستشار أحمد الزند، مثلما غضبت قبيلة «الطب» ما أن علمت بتجاوزات من بعض عناصر الداخلية فى حق أطباء، فما كان من قبيلة «الداخلية» إلا أن أعلنت الحرب على كل القبائل، وبدت الحياة المصرية المعاصرة وكأنها انعكاس لحياة قبلية تتصارع فيها كل قبيلة كى تنتزع ما تراه حقاً لها، أو تغتصب حقوق القبائل الأخرى ..

وربما يتساءل البعض مندهشاً عن دور السياسة لإنقاذ المجتمع من تقهقره إلى الخلف، والإجابة السريعة هى أن السياسة غائبة، أو هى بدورها ترتد وفقاً لنفس النظرية إلى عناصرها القبلية الأولى..

فإذا كانت التعددية الحزبية هى ارتقاء من مرحلة التعددية القبلية، فإن غياب السياسة وضعف الأحزاب، يفسح المجال لارتداد عكسى ينحط بالمجتمع إلى بداوته الأولى .. وربما يكون من المناسب هذه المرة أن أتعرض باختصار إلى الأوضاع الراهنة للقوى اليسارية المختلفة فى مصر باعتبارها بحق هى الحاملة للأفكار التقدمية، فهناك انحسار واضح للأفكار المحورية التى غلبت بها المبادئ الاشتراكية فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، وقد أسهم فى ذلك أسباب متعددة بعضها خارجى وبعضها داخلى بنيوى (Structural)، أما الأسباب الداخلية فهى تتعلق فى الأساس بغيبة وضعف التنظيمات اليسارية التى نشأت فى ظل أوضاع استبدادية، وكانت مستهدفة بواسطة أنظمة الحكم القمعية، فضلاً عن أسلوب العمل النخبوى فى أغلب هذه التنظيمات، والاكتفاء بالجهد النظرى المنعزل عن واقعه الاجتماعى.. أما الأسباب الخارجية فيمكن تلخيصها فى التدخل المستمر لقوى الرأسمالية العالمية فى شئون دول المنطقة بوجه عام، وعملها الدؤوب لإضعاف وخلخلة القوى اليسارية، بوسائل متعددة، كما أن انهيار الاتحاد السوفييتى ومعه الكتلة الشرقية بوجه عام أدى إلى فقدان اليسار الثقة فى نفسه، فضلاً عن أن مصداقيته الجماهيرية قد تضاءلت إلى حد كبير.

كان اليسار المصرى يتحرك عبر أجنحة من أقصى اليسار متمثلاً فى الحزب الشيوعى المصرى، والإشتراكيين الثوريين ، مروراً بأحزاب يسار الوسط مثل حزب التجمع والعربى الناصرى والكرامة والتحالف الشعبى والتيار الشعبى، وأحزاب تمثل يمين الوسط مثل الحزب الاجتماعى الديمقراطى وحزب الدستور .. إلا أن كل هذه الأحزاب نشأت فى ظروف غير مواتية لنموها نمواً طبيعياً ، فإما أنها نشأت فى ظل دولة بوليسية قمعية حددت حركتها، وإما أنها نشأت فى ظل اضطرابات وعدم استقرار، وبالمحصلة لم تستند إلى بناء حزبى هرمى من القاعدة إلى القمة .

وأحزاب اليسار بوجه عام تتبنى قضية العدالة الاجتماعية، وتؤمن بضرورة وجود الدولة بشكل مؤثر فى النشاط الاقتصادى حماية للطبقات المعدمة والأشد فقراً، وبعض هذه الأحزاب تتماشى مع فكرة الإدارة ذات الرأسين، أى تلك التى تؤمن سياسياً واجتماعياً بمبادئ العدالة الاجتماعية، لكنها تتحرك فى المجال الاقتصادى بما يمكن أن نطلق عليه «إقتصاديات السوق الموجه» أو تلك السياسة الإقتصادية التى تضمن حرية انتقال الأموال والأفراد وحرية الملكية والنشاط، ولكنها تضع من الشروط والمحددات ما يضمن عدم نشوء ما يسمى «الرأسمالية المتوحشة» .

واليسار العربى والمصرى يواجه تحديات هائلة، أهمها فى عملية البناء الثقافى والوعى الجماهيرى ، فمن الملاحظ الانعزال شبه التام بين حركات اليسار المختلفة وبين قواعدها الشعبية، وعدم توافر الإرادة الصلبة للتحرك بين الجماهير، ولا شك أن نظم الحكم القمعية تمارس إجراءات عنيفة ضد هذه الحركات، إلا أنها ينبغى أن تطور من أساليب العمل، وأن تستغل الهامش المتاح لتحركها بكفاءة .

أن اليسار المصرى والعربى يعتنق فى مجمله البعد القومى العربى، وتمثل القضية الفلسطينية هماً مشتركاً وتحدياً مستمراً، لأن الحركة الصهيونية بالتعريف هى حركة عنصرية توسعية تمثل رأس الحربة للنظام الرأسمالى الدولى وتخدم أهدافه فى منطقة الشرق الأوسط ، ولذلك فإن التناقض مع هذه الحركة هو تناقض رئيسى لن تنجح فى تخفيفه اتفاقات السلام المرحلية التى أبرمتها إسرائيل مع مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية ، ولا يزال اليسار العربى يعاير علاقاته مع قوى اليسار الدولية من منظور رؤية هذه القوى الدولية لطبيعة الصراع فى المنطقة.

ومن المحقق أن الأوضاع التى استجدت فى الشرق الأوسط بعد ثورات الربيع خلال الأعوام الأخيرة ، بل وقبل ذلك بعد الغزو الأمريكى للعراق ، فإن تلك الأوضاع تكشف عن علاقات صراع جدلية كانت كامنة ، ويراها اليسار العربى من منظور طبقى كإحدى نتائج الخلل فى علاقات الإنتاج، إلا أن هذه الجدلية لا يمكن الأخذ بها بشكل مطلق، لأن هناك خطوط تماس عرقية ومذهبية ودينية تسبق وتختلط وتؤثر على ذلك المنظور التقليدى .

ولا شك أن بعض عمليات النقد الذاتى التى مارستها قوى اليسار فى نهايات القرن الماضى، قد أسفرت عن استنتاجات عديدة، أبرزها فى تقديرى هو إعادة النظر فى علاقات الملكية، والتخفيف من غلواء وحدية الموقف من الملكية الخاصة، بل وإعادة النظر فى جدوى وأهمية الاستثمارات التمويلية الأجنبية لتنشيط الاقتصاد، وإمكانية المزج بين «اقتصاديات السوق« و «إدارة الدولة» فيما يطلق عليه «اقتصاد السوق الموجه» .

أن مصر تتطلع وتنتظر من أحزابها التقدمية أن تنهض كى توقف على الأقل حركة الارتداد المتسارعة التى أوشكت أن تعيد المجتمع إلى القرون الوسطى ...
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف