الأهرام
عادل السيوى
بهجة التشفى
عندما تجرعت مصر أكبر هزيمة فى تاريخها الحديث، سجد الشيخ الشعراوى ركعتين شكرا لله، ولا نعرف إذا ما دهمه الحزن على الأسرى المصريين الذين دفنتهم اسرائيل أحياء فى مقابر جماعية، وعلى ما تعرض له سكان ثلاث مدن تم تشتيتهم خارج بيوتهم لسنين طويلة، وهل جرح مشاعره احتلال اسرائيل جزءا كبيرا من أرضنا؟ وإذا كنا ندرك أن ذلك الموقف كان بدافع من خصومة طويلة بين التيار الدينى والنظام الناصري، فإنه يجسد على الجانب الآخر تجاهلا بالغا لمشاعر المصريين واحزانهم. التشفى هو رد فعل انتقامي، لا علاقة له بالشفاء حتى من الغضب المتراكم فى القلب، فسقوط الاخرين وكأن عدالة السماء قد أخذت لك حقك، يعفيك فى الأساس من مواجهة خصومك، فقد تكفلت أطراف أخرى بدحرهم. ليس فى التشفى أى إحساس بالمسئولية تجاه الآخرفهو كراهية مطلقة، لا يدفعك لتدبر قوتك الذاتية، او لطرح البدائل والمناطق المشتركة، الشماتة رحلة بلاعودة، وهى فى الحقيقة هزيمة للذات، قبل أن تكون هزيمة للخصم الذى تشفى منه غليلك.

اتساع رقعة الشماتة المتداولة الآن فى مصر، تتوجب منا التأمل الجاد لنعرف كيف انتقلنا هكذا من الحماس المدهش والتضامن الواسع، لإنهاض البلد من عثراته، الى حالة من المتابعة المتفائلة أو المراقبة المحايدة ومنها الى الريبة والشكوك، وصولا الى الانفراط وفقدان الثقة، حتى انفتح سيل التهكم والسخرية المرة، من الجميع وضد الجميع. إنها رحلة غريبة، بدأت بتفكيك التحالف الواسع الذى زحف لإخراج الإخوان من المشهد، تصاعد بعدها خطاب الإشادة بالدولة وهيبتها، بصفتها المسئول الأول والأخيرعن كل شيء، وتجاهل خطاب التغيير، وكان ذلك مقدمة للهجوم على الشباب والنشطاء والسياسيين والحقوقيين، وسط دهشة مناصرى النظام أنفسهم، ثم تحول الهجوم الى حملات للتشهير والتشويه، شارك فيها رجال القضاء أيضا، فأصبحت 52 يناير مثلا 52 خساير، ووصل التردى الى إذاعة مكالمات خاصة لتجريس المعارضين، وكأن النظام القديم قد عاد بقوة الى الحلبة وراح يكيل اللكمات لخصومه.

على الجانب الآخر كان الخطاب الرسمى يشحن بطارية الوعود باكثر مما تحتمل، فرفع الناس سقف التوقعات، وهذا ميل انسانى مشروع، ولكن صعوبات الحياة كانت تزداد قسوة رغم العواطف الجياشة، وبدأت الثغرات فى الأداء تتكشف، مما دفع البعض لإظهار شكوكه، بل ومعارضته واتضح أن الكثير من الممارسات كانت غير مبنية على مقدمات مقنعة، فكيف بربك بعد ثورة قادها الشباب فى الأساس، يتم سجن شاب عمره 81 سنة، وتركه فى السجن لأكثر من عامين، ولا يزال سجينا ، بتهمة ارتداء تى شيرت مكتوب عليه، «وطن بلا تعذيب». هل أصبح التعذيب حقا مقدسا للنظام، لا يمكن التفريط فيه؟

موجة الشماتة ولدت من رحم المجتمع الذى حرمته النظم المتعاقبة من حقه فى المشاركة والممارسة السياسية وأبعدته تماما عن المجال العام. احساس عميق باليأس هو الذى فجر هذه السخرية المرة من النظام فى الصحف وعلى الشاشات وفى شبكات التواصل الاجتماعي.

لكن لا يمكن إعفاء المجتمع من مسئولياته، فهو طرف مكتمل الوجود داخل المعادلة، وهو الذى فوض بكامل إرادته، وهو الذى انتخب النظام القائم، والغريب أنه لم يكمل بذاته عملية التغيير الى نهايتها ،ولكنه يطالب الآن أجهزة الدولة بإكمال مشروع الثورة، جماهير لا تخلق اليات ضغط مؤثرة فاعلة على الأرض،وليس على شبكات التواصل وحدها، لاينبغى أن تلوم نظام الدولة، لأنه لم يحقق لها مطالبها وشعاراتها الثورية، النظام القائم هو نظام دولة فى نهاية الأمر.

أجهزة الدولة تتصلب بدورها، فلديها باترون جاهز تحاول فرضه على الواقع، ومازالت رغم تكشف الكثير من الثقوب فى الثوب الذى تقوم بحياكته، تصر على انها تقودنا فى الطريق السليم، ولا أعرف الى أين نذهب فى الحقيقة، إذا استمرت هذا الحال، و إذا اصر النظام على باترونه القديم، ولم يبادربتعديل الأداء والاستجابة بمرونة لمطالبات تتلاحق، فى واقع يصعب قمعه او اسكاته أو حشره داخل حيز ضيق، وربما يكون من الأجدى للجميع ، وبإحساس متبادل بالمسئولية الوصول الى توازن جديد بين النظام القائم والقوى والنخب الفاعلة فى الواقع فعليا ، وليس مع من يختارهم النظام بنفسه كى يتحاور معهم .

الخوف من سيادة روح التشفى والسخرية المرة، يتولد من قدرتها على تفريغ الطاقة، وكأننا نعلو بالفكاهة والشماتة على الواقع، ونتحلل بذلك من أى مسئولية. النظام القائم لن ينجح وحده ، ولا النخب المعارضة له مكتملة القدرة بالمثل، ومن هنا تصبح مسئولية الطرفين أكبر، ويصبح الحوار الجاد مطلبا ملحا بالفعل، كى يتوقف الاستقطاب، فلن يرسم طرف بمفرده خريطة الخروج من المأزق. التشفى والاتهامات المتبادلة تكشف ضعف الطرفين معا، النظام بأجهزته التى تعزل كوادرها داخل دوائر ضيقة لا تملك الرؤى والخبرات الكافية لمواجهة مشاكل الواقع الجديد ،والمجتمع المصاب بعدد معتبر من العلل التاريخية. الإفراط فى التهكم والوعيد والاستخفاف سينال من أى مبادرة تطرح ، وسنبتهج فقط بقدرتنا على التصيد والتمثيل بمن سقط. السخرية المرة تقدم نوعا من المتعة السرية، لأنها تفرغ عنفا غريزيا مكبوتا، أنها فى النهاية استبدال للمواجهة الحقيقية بالانتصار الافتراضي، كالفرجة على مشاهد الإعدام، التى تحقق للبعض نوعا من الطمانينة بل والبهجة، لأنها تثبت لهم أن الموت يطول الاخرين فقط. لن نخرج من هذا المستنقع البائس، إلا إذا أقتنعنا بضرورة الحوار الجاد، وهذا مطلب مشروع، ولا بديل عنه، فمازالت فى مصر طاقات قادرة ومخلصة، ولا يعقل أن يحدد طرف واحد مهما بلغت حكمته وخبراته، مستقبل ومصير أمة بتحويل شعبها ونخبها الى مجموعة من المستمعين الدائمين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف