قال لى الدكتور سيد عويس، يرحمه الله، إنه كتب كتابه: «هتاف الصامتين» من أجل أن يبحث عن فكرة مواجهة المصريين للمجهول فى حياتهم، وذلك بعد الصدمة الهائلة، التى تعرض لها الضمير والوجدان المصري، فى الخامس من يونيو 1967.
تجول الرجل فى أنحاء مصر، ورصد الكتابات التى يكتبها أصحاب السيارات عليها. سواء أكانت السيارات ملاكى أو تاكسى أو نقل، رأى فى الكتابات جهازاً إعلامياً من الطراز الأول، يجوب أنحاء مصر، يحاول أن يجمع روحها المبعثرة، مثلما فعلت إيزيس عندما كانت تجمع أشلاء أوزوريس من زوايا وأركان بر مصر.
كان هدفه معرفة الروح الخالدة الصامدة فى قلب كل مصري. رأى سيد عويس، أن الناس يكتبون ما يكتبونه على سياراتهم ليعبروا عما فى نفوسهم، دون أن يراهم أحد. أى أنهم يحاولون أن يهتفوا ولكن فى صمت. معبرين عن أفراحهم وأحزانهم ودعاباتهم وعن بعض القيم التى يقدسونها.
استغرقت الدراسة منه ثلاث سنوات، من 1967 إلى 1970. خرج الباحث منها بألف عبارة. منها 19 عبارة تكررت 310 مرات. وهي: يا رب سترك (45 مرة) يا رب رضاك (35 مرة)، ما شاء الله (34 مرة)، الصبر جميل (25 مرة)، توكلت على الله (25 مرة)، عين الحسود فيها عود يا حلاوة (15 مرة)، فى التأنى السلامة وفى العجلة الندامة (15 مرة)، يا حاسدين الناس، مالكم ومال الناس (15 مرة). والعبارات لها ثلاثة أشكال، عبارات ذات شكل شعبى تمثل: 38%، وعبارات ذات مضمون دينى تمثل 32%، والباقى أشكال أخري.
والكلمات ذات الشكل الشعبى مأخوذة من أغانى الزمان الجميل، أبو سمرة السكرة (محمد قنديل) أعطنى حريتى أطلق يديا (أم كلثوم). تراعينى قيراط أراعيك قيراطين (عبد الوهاب) حلو وكداب، وسواح ماشى فى البلاد سواح (عبد الحليم حافظ) سالمة يا سلامة (سيد درويش) مين ينصر المظلوم ويحاسب الظالم (ليلى مراد) كايده العزال (عايدة الشاعرة).
تليها الكلمات الشعبية: النبى تبسم، إنت اللى فيهم، حمال الأسية، خليها على الله، ربنا عاوز كده وأنا أعمل إيه؟ معلهش يا زهر، نصيبى كده. وعبارات تحذير: إن خلص الفول أنا مش مسئول، حاسب ما عنديش إلا هيَّه، حاسب وراك محاسب، ما تبصليش بعين رديَّه، بص للى انصرف عليه.
الأمثال الشعبية المصرية موجودة: إجرى جرى الوحوش، غير رزقك لن تحوش. البانى طالع والفاجت نازل. العيشة منجهة والحياة أبهة، اللى مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين، يا ناس يا شر كفاية أر. إمشى فى طريقك عدل يحتار عدوك فيك.
وهناك دعوات وابتهالات: نظره يا شيخ العرب، مَوِّنّا بالسولار وصلى على النبى المختار، الحمد لله على نعمته، الله يرعاك، اللهم اعطنى خير الزاد واكفنى شر العباد، استرها يا رب. اللطف عند القضا. الفاتحة لحضرة النبي. مدد يا أم هاشم. مدد يا أهل البيت. مدد يا حسين مدد. نظرة يا أبو العباس، نظرة يا بنت الحسن والحسين.
آيات القرآن الكريم، كان لها مكان على هياكل هذه السيارات: إن مع السر يسرا. باسم الله مجريها ومرساها. هذا من فضل ربي، وما من دابة على الأرض إلا وعلى الله رزقها. إن مع العسر يسراً. ومن الإنجيل: الله محبة، سلم الرب طريقك. الرب راعى فلا يعوزنى شئ. وهناك طلب للخلاص من السيدة العذراء: يا أم المخلص خلصيني.
الأسماء والألقاب والأماكن دونت على السيارات: لهاليبو، مبروكة، كايداهم، عنتر، أم صابر، أسطول المنوفية، حمامة السلام، سفينة الصحراء، سيارات النهر الخالد، شيال الحمول، عروسة المنصورة، قاهر المانش، ليلى أخت طارق، وحش الشرقية.
اعترف سيد عويس بأن الخامس من يونيو إحدى مناسبات الموت الجماعى عند المصريين. وهى أيضاً مناسبة الحزن العميق، ويذكر نفسه وغيره بأن الحى أبقى من الميت. فالمصرى إنسان يعشق الحياة ويحبها ولا يرفضها ويحب الدعاية ويتقن صناعتها، وإذا بالغ فى المداعبة استخدم معنى الموت، وإذا بالغ فى حب شخص يقول له:
- أحبك موت.
كتب عن مصر 67، مصر الجريحة:
- إن مصرنا الخالدة، لم يكن لها نيل واحد، يفيض على أراضيها بغزير مائه، ماء الحياة، إنه نهر الديانات. وهو أطول أنهار الدنيا، ظهر مع الخوف من المجهول، والاحتماء منه، والاستسلام لعدد من الآلهة. وانتهى بالإيمان بإله واحد. ثم جاءت المسيحية، وجاء الإسلام بعدها. وثمة نهر ثالث احتوى الثقافات المختلفة والعلوم والمدنيات والمثولوجيات وهى إشعاعات إنسانية اندمجت بعضها فى بعض فى وحدة أسهمت فى تطور الإنسان واستمرار حيويته.
يتوقف الدكتور سيد أمام دلالات هذه العبارات وما تعبر عنه من مشاعر الهجر والفراق وكيد العزال. وظلم الظالم. والخوف من حسد الآخرين، حيث أن عامة الناس فى مصر تخشى الحسد وتخافه وتقيم له ألف حساب. أيضاً فيها ذلك الصبر السلبى وتلك الحيرة والاستسلام.
إلى جانب الاستسلام والرضا بالمقدر والمكتوب على الجبين الذى لا بد أن تراه العين. هناك الكثير من القيم الإيجابية مثل معانى الأمل، والفرح، والدعابة. والغزل والتسامح والدعوة إلى الشطارة. والحث على فعل الخير، حتى وإن رماه فاعله إلى البحر. وعدم الغش باعتباره من الأفعال المذمومة. كذلك لا فائدة من الندم على ما فات.
كثير من العبارات تطلب السلامة، وتنصح بالتأنى وتبحث عن الستر، وتخشى الفضيحة، والنجاة من عذاب القبر، أمل كل حى فى نظر المصريين. والكل يطلب رضاء الله. ويدعوه، فالذين يركبون السيارات يكونون ودائع بين يدى الله. حتى يصلوا بالسلامة.
هل أطلب له الرحمة، بشكل تقليدي؟ أم أقول إنه واحد من القلائل الذين أودعتهم مصر مكنون سرها فى لحظة من لحظات الصفاء والتجلى والوجد. تماماً، مثلما فعلت مع عبد الله النديم ومحمود مختار وسيد درويش وبيرم التونسي.
ما أكثر الذين يغرقون فى مستنقع التفاصيل الصغيرة. المكررة والمعادة والمملة، وما أندر الذين يضعون أياديهم على الجوهر، إنهم لا يتكررون فى تاريخ الأوطان. وكان سيد عويس ز1903 ذ 1988س الذى قد لا يعرفه الكثيرون منا، واحد من هذه القلة النادرة.