يصعب على أحد إنكار أن ما يجرى فى شوارعنا لا مثيل لهفى العالم، والحياة الآدمية فى تلك الشوارع فى مهب الريح.. سيارات تفاجئك من الاتجاه العكسى وأخرى تتوقف على الطرق السريعة مثل الدائرى والمحور، أما سيارات النقل فحدث ولا حرج، فهى تمارس الردع القاسى بحمولاتها المخالفة ورعونتها، معتمدة على حجمها المهول قياسا إلى بقية السيارات، وهى تسد الطريق فى معظم الأحيان وليضرب من يريد اللحاق بعمله أو بطائرة أو سيارة إسعاف تحمل مريضا أو مصابا بين الحياة والموت، رأسه فى الحيط.. فهو كما يقولون الآن «يعمل نفسه من بنها».. وعندنا فقط تجد الشوارع مزدحمة فى كل ساعات اليوم، فلا فرق، تقريبا، بين الواحدة فجرا والواحدة ظهرا، والكبارى تتكدس عليها السيارات، وكأنها ساحات انتظار. وتجد من يفتى فى الأمر بأسئلة خبيثة أحيانا، لماذا يقوم الجيش بشق طرق جديدة ؟ ولماذا لا تتركنا القيادة الحالية نختنق ونفقد أعصابنا من العطلة والكوارث أحيانا ،وكأن الطرق وإنسيابية المرور فيها رفاهية ممجوجة، ويؤجج النيران مقاولو الحقب السابقة الذين يتجلى فسادهم الآن أمام أعيننا جميعا. ولا تسأل متى يشتغل المصريون أو لماذا لا تخف الحركة فى ساعات العمل.
فى شوارعنا فقط تسير سيارات بدون لوحات معدنية أو فوانيس بالمخالفة الفادحة لقوانين المرور. فى شوارعنا فقط يختار الميكروباص، على هواه، محطاته لإنزال الركاب ولا يهم أن يسد الطريق على الآخرين .. فى شوارعنا فقط تجد سيارات تقف على جانبى شوارع المدينة، وتترك مساحة تكفى بالكاد لمرور سيارة واحدة، مع أن الشارع اتجاهان، ولكل شارع مناد يفرح بتكدس السيارات بأسعار يحددها هو وكأن الشارع ملكه وليس شارع الحكومة كما كنا نقول زمان. بينما فى عواصم الدنيا كلها تؤول إيرادات الانتظار المنظم فى الشوارع إلى الدولة. وفى شوارعنا تنفث آلاف السيارات أطنانا من العادم الذى يلوث الجو ويصيب المصريين بأمراض خطيرة تستوجب إنفاق المليارات لعلاج ضحاياها.
وفى شوارعنا يحدد الازدحام الخانق سرعة السيارات بمترين فى الخمس دقائق، فتعبر مسافة كيلومتر واحد فى نصف ساعة. وقد سألت محافظا سابقا للجيزة، عن افتراض أن مستثمرا أجنبيا، جاء إلى مصر فى زيارة استكشافية، فعبر ميدان الجيزة فى ساعة تقريبا، ثم توجه إلى الأهرامات، فقضى نحو الساعة لعبور ميدان الرماية ، فى طريقه إلى تحقيق حلمه، فهل يصدق الرجل إننا أحفاد بناة الأهرام؟ وهل يعود إلى مصر للاستثمار فيها؟..
رد على الرجل بأمانة بالنفى القاطع. ويشعر المرء ان حياته فى خطر طوال الوقت،لأن القوانين مسجونة فى زنزانة التراخى والمسئولين عن المرور يدعون «الخلق للخالق».. وإذا سقط ضحايا جراء الاستهتار بالقوانين، وجدنا من يلقى بذلك على «القسمة والنصيب، وعمرهم كده.. وربما كان ذلك من أسباب تفشى ظاهرة «آخذ حقى بدراعي».. وفوضى مرعبة تؤكد ان حياة البشر هى أرخص ما عندنا. فقد عشت سنوات طويلة فى الخارج ولم أر، ولا مرة، أحدا يكسر إشارة حمراء لعلمه بأن جزاء رادعا فى انتظاره. ولا تفوتنا الإشارة الى تكدس القمامة على جانبى الطريق، بصورة مخجلة، فقد تركت الدولة،عقودا طويلة، الطرق بلا صيانة.
والأدهى أنها تركت الكبارى كذلك حتى أن وزير النقل المهندس سعد الجيوشى كان قد صرح قبل سنوات ان كافة كبارى مصر متهالكة ومهددة بالانهيار.. أصبحت القاهرة الكبرى حالة استثنائية مؤسفة، خاصة بعدما تضاعف تعدادنا إلى ما يقرب ثلاثة أضعاف ،فقد كنا عشرين مليونا فأصبحنا تسعين مليونا..ومع كل ذلك، تجد أصواتا زاعقة، تتساءل: لماذا بناء عاصمة جديدة؟ وكلما تقدم العمل فى هذه العاصمة ازداد سعير الهجوم عليها، على اعتبار أنها ليست أولوية.. علما بان بعض هذه الأصوات كانت تصرخ ليل نهار من مثالب الازدحام وآثاره المدمرة.. وتحذر من عواقب ما تتحمله القاهرة التى يقطنها الملايين، ويعيش على أطرافها، فى العشوائيات الملايين، وتتكدس فيها المؤسسات الحكومية بمركزية غريبة، والتى لم تتطور منذ كانت تحتضن مليونى مواطن فقط لا غير. وهو ما يذكرنى بحيرة المستثمر بين ميدانى الجيزة والرماية. ويجعلنى أدعو المهاجمين إلى الاطلاع على تجارب نقل العاصمة أو إنشاء أخرى جديدة فى أكثر من دولة..