د. نصر محمد عارف
تجديد الخطاب الدينى بدأ فى برلين..!
فى الأزهر بركة متوارثة … هكذا يؤمن الأزهريون على مر التاريخ، يعتقدون أن الأزهر حافظٌ، ومحفوظ، حافظ للدين بشموليته وتوازنه وصفائه، ومحفوظ ببركة العلم والعلماء، والصالحين وأهل التقوى من شيوخه وطلابه. للأزهر عظمةٌ متوارثة، هى نفحةٌ من عظمة الدين الخاتم، وهى عطيةٌ من كرمِ القرآن العظيم، وهى تجل لاسم الله العظيم. للأزهر علوم لا يحيط بها الا أبناؤه الأوفياء المخلصون…ولن تمس قلب الانتهازيين والأنانيين والمستغلين لاسمه وتاريخه؛ حتى وان حملوا أعلى درجات العلم الدينى من الأزهر ذاته. حيطانُ الأزهر وفرشه، وخشبه امتص من العلم أكثر مما حوته عقول ملايين البشر فى بيئات تنافس الأزهر وتحاول أن تزحزحه لتحل فى موضعه، وتحتل موقعه، الأزهر عالمٌ من العلم لم يحط بقطره منه أجيال ممن تطاولوا ولم يطولوا أعتابه من أشباه المثقفين.وشيخ الأزهر انسان، ولكنه رمزٌ، هو من علماء الأزهر، ولكن تتجلى فيه بركة الأزهر، وهو فى شخصه سليل بركات. متوارثه، فقد كان أبوهما صالحا، تجلى كل هذا فى برلين، فى لقاء فضيلة الامام الأكبر مع أعضاء البرلمان، كان موقفاً حاسماً، فاما أن يكون الأزهر عند مستوى المسئولية التاريخية، وعلى قدر التحدي، واما الأخرى …وقد كان فوق التحدى وأمامه، وكانت عمامة الأزهر بيضاء ناصعة فى صفائها وطهرها وانسانيتها وشفافيتها…وفى نفس الوقت كانت عالية شامخة مثل الهرم ومسلات الفراعنة.
تطاول بعض الأقزام من بوم فضائيات تجار عصر الانفتاح وغربانها، وانتقدوا فضيلة الامام قبل أن يبدأ حديثه فى البرلمان الألماني، نقداً طفولياً صبيانياً مبنياً على صورة ذهنية خلقتها أوهام ومصالح وتحيزات ايديولوجية، وهذا دفعنى لمتابعة حديث الدكتور أحمد الطيب من أوله الى آخره، وكانت المفاجأة، وجدتنى أمام امام يقف على ألف عام من تقاليد العلم والتعليم والحوار، يخاطب اخوة فى الانسانية من موقع العزيز المتواضع، الواثق بلا حتميات ولا تعالٍ، وجدتنى أستمع الى فضيلة الامام الأكبر تارة، والى روح الأزهر وبركة الشيخ الطيب الحسانى تارة أخرى، تداخل العلم مع التوفيق مع الالهام والبصيرة فكانت صورة غير مسبوقة، وكانت البداية…بداية تجديد الخطاب الدينى الحقيقية التى يجب ألا يتركها الأزهر فى برلين، بل يجب أن تنطلق من القاهرة اليوم…وليس غداً.
جاء خطاب الامام الأكبر وإجاباته عن الأسئلة مباشراً شفافاً بعيداً عن اللجوء الى حصون الدفاع أو خنادق الاعتذار، كان نقدياً للفكر والفقه والتاريخ الاسلامي، ولكنه نقد مؤسس على رؤية الوحى الصافية كما جاءت فى القرآن الكريم والسنة المطهرة، تعرض لأهم الاشكاليات التى يجب أن ينصرف اليها جهد الأزهر الشريف وجميع المؤسسات الدينية الكبرى فى العالم الاسلامي، بالنقد والتمحيص، والتصحيح لتنقية التراث الدينى كله مما علق به من بقايا ثقافات وسياسات العصور السابقة.
تناول قضايا الجهاد ووضعها فى اطارها الصحيح، بعيداً عن تأويلات المغالين، وانتحالات المبطلين، وتوظيفات الحركيين الانتهازيين، وأعلنها بصورة واضحة أن الجهاد هو دفاع عن النفس، وليس عدواناً بأى صفة من الصفات، وأنه مؤطر بقيم وأخلاقيات لم تعرفها البشرية قبل الاسلام، ولم تلتزم بها بعده، كذلك ركز على العلاقة مع غير المسلمين وأنها تقوم على التعايش والبر والقسط والتعاون لما فيه خير الانسان وصلاح حاله، وتناول قضايا حقوق الانسان والحكم الرشيد …الخ. وفى اطار كل ذلك كانت هناك لحظتان حاسمتان فى حوار الامام الأكبر، أولاهما تناولت قضية اشكالية يرتبك أمامها الكثيرون، ويتحايلون عليها، أو يهربون منها، أو يتحججون بأنها وحى الهي، وأمر دينى لا نملك أمامه الا الالتزام والتسليم، وهذه الاشكالية هى عدم التعامل بالمثل فى زواج الرجل والمرأة بشخص من أهل الكتاب، فالاسلام يبيح للرجل أن يتزوج المسيحية واليهودية، ولكن نفس الحق لا يُعطى للمرأة المسلمة… وقد كانت حجة الامام الأكبر على أعلى درجات المنطقية والعقلانية والواقعية، وهى أن الاسلام يعترف باليهودية والمسيحية على أنهما أديان سماوية، يجب على المسلم أن يؤمن بهما، ولكن اليهود والمسيحيين لا يبادلونه نفس الاعتراف، ولكى يخفف من وقع هذه الحقيقة وضعها فى صورة طرفة قائلا: ان الاسلام هو الأخ الأصغر الذى لا ينال نفس مكانة الأخوين الأكبرين، فالزوج المسلم ملزم بأن يمكِّن زوجته اليهودية أو المسيحية من أداء فرائض دينها، لأنه يؤمن به، ولكن ليس هناك ما يضمن أن يقوم الزوج الكتابى مع زوجته المسلمه بنفس المعاملة لأنه لا يؤمن بالاسلام كما يؤمن المسلم بالكتب السابقة.
واللحظة الحاسمة الثانية جاءت مع اعتراف الامام الأكبر بأن الفقه الاسلامى والتراث الاسلامى تعامل مع المرأة بطريقة تختلف عن جوهر القرآن والسنة انتصارا للعادات والتقاليد، وهذه الرؤية صحيحة وحقيقية، ولكن كان من الصعب على المؤسسات الاسلامية الكبرى أن تقر وتعترف بوجودها، لذلك ارتبك الخطاب الإسلامى وتخلف الفكر الاسلامي، وجمد وتحجَّر الفقه الاسلامي؛ لأنه خلط بين الفقه التاريخى وبين جوهر الدين وروحه، ورفع الفقهاء فوق مستوى البشر والزمان والمكان، وجعل من أفكارهم وفتاويهم، واختياراتهم الفقهية عابرة للزمان والمكان، وكان هذا المنهج كارثة على الفقه والفكر الاسلامى فى القرنين الأخيرين؛ بعدما تغيرت أحوال العالم وتغير نمط الحياة وتسارع ايقاع الزمن.
وهذا المنهج فى التعامل مع مجمل التراث الاسلامى هو الوسيلة الوحيدة للبدء فى عملية تجديد شاملة لمختلف جوانب الخطاب الاسلامي، وقد كنت مشغولا بهذا المنهج منذ أن اطلعت على مشروع الدكتورة انجريد ماتسون الباحثة الامريكية المسلمة التى أعدت رسالتها للدكتوراه فى جامعة شيكاغو فى عام 1999 حول موضوع الرق فى الاسلام وخلصت الى أن القرآن وضع أسس القضاء على الرق؛ لكن الفقهاء انحازوا لسطوة المجتمع وقواه المؤثرة، وقننوا الرق، وخلقوا منه مؤسسة كاملة ومستمرة، وما انطبق على الرق ينطبق على المرأة، وعلى التعامل مع أهل الكتاب، ومع موضوعات كثيرة.
لقد وضع الامام الأكبر فى حوار برلين منطلقات تجديد الخطاب الاسلامي، وأظن أن هذا الأمر يستوجب فتح باب الحوار بين العلماء والمختصين للتناول المعمق لعشرة قضايا أظن أنها هى التى تربك العقل المسلم المعاصر، هذه القضايا هي: مفاهيم الولاء والبراء. ومسئولية المسلم عن تبليغ الدين. ومسئولية المسلم عن ايمان وكفر الآخرين. وعلاقة المسلم مع غير المسلمين فى مجتمعه وخارج مجتمعه. ومفاهيم الجهاد وحدود حرية الفرد فى ممارسته. ومفاهيم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ودور مؤسسات الدولة ودور الفرد. وحرمة النفس البشرية. وحرية الانسان فى الاعتقاد والايمان والكفر. والدولة الحديثة وعلاقتها بالخلافة الاسلامية فى عصر الراشدين. وموقف الاسلام من الثورة على الحكام.