الوفد
عباس الطرابيلى
هموم مصرية -فريدة.. الاسم والمعني
هي أمي.. وكانت فعلاً فريدة بين قريناتها.. في المعني والمبني.. وكم افتقدها كثيراً رغم أنها تركتني- وإخوتي- منذ 21 عاماً- أي عام 1995..
وكانت أمي من أوائل من تعلمن في دمياط. وكانت في السنة الثالثة من المدرسة الراقية التي أقيمت بدمياط.. بينما كانت عائشة عبدالرحمن الشهيرة باسم بنت الشاطئ، في السنة الأولي.. وكانتا صديقتين.
<< والست الدمياطية- غير كل سيدات مصر- هي الأكثر التصاقاً بأولادها.. فهي التي تربي. وترعي. وتوجه.. لأن الأب الدمياطي يغيب عن بيته من الصباح الباكر.. إلي ما بعد العشاء.. هو.. يتعب ويشقي ليوفر المال.. وليس مسئولاً عن أي شيء في البيت.. والأولاد. وكانت أمي وراء نجاحي في مسيرة التعليم إذ كانت «مدرسة».. متي؟.. عام 1927!! حتي أن والدي لم يكن يعرف في أي سنة دراسية إذا سألني!!
<< وما ليس غريباً من أمي التي كانت «تحفظني» أشعار حافظ إبراهيم في حب مصر.. أن أجد عندها الكثير من أمهات الكتب والمجلات. إذ وجدت عندها سلسلة أجزاء دائرة المعارف الإسلامية للثلاثي الكبير أحمد زكي خورشيد والششتناوي وعبدالحميد يونس.. وأعداداً «عديدة» من مجلة الرسالة التي كان يصدرها في الثلاثينيات أحمد حسن الزيات.. وأعداداً من مجلة الثقافة لصاحبها أحمد بك أمين كما وجدت عندها نسخة من الطبعة الأولي لسيدة المطبخ الرائدة أبلة نظيرة وعمري الآن يتجاوز 70 عاماً.. وكذلك سلسلة مجلة الرواية التي أصدرها الزيات عام 1937!! ومازالت هذه كلها تزين مكتبتي حتي الآن..
<< وأمي- عليها رحمة الله- كانت قارئة ممتازة للصحف.. ولما رأت شغفي بالقراءة قالت لي يوماً: سوف تموت وفي يدك أوراق صحيفة!! أي هي التي تنبأت أنني سأصبح صحفياً وكاتباً.. وقد كان!! ومازلت أتذكر خطاباتها الدورية لي- وبالمناسبة كان خطها اليدوي أفضل من خطي- رغم جودة خطي- إذ لم أجد لها خطاباً واحداً تقل عدد صفحاتها عن عشرة صفحات «وش وضهر» كانت تحول كل رسالة منها إلي صحيفة تذكر فيها كل شيء من القط مشمش- قط الأسرة المعمر- إلي أخبار الأعمام والأخوال.. بل وأبناء الحارة.. كان كل خطاب عبارة عن نشرة أخبار.. سواء كنت في القاهرة.. أو عندما سافرت للعمل في أبوظبي. وندمت كثيراً عندما تخليت عن الكثير من خطاباتها- عند العودة النهائية- وإن كنت حتي الآن احتفظ بالكثير منها!! وربما كانت أمي صحفية دون أن تدري ولكنها كانت تريد أن تربطني بكل جذوري.. وهي تتحدث في كل خطاباتها عن أخبار الحارة والشارع والحتة.. فضلاً عن أخبار الأسرة.. بكل تفريعاتها..
<< ورغم ذلك كانت أمي وراء قرار الذهاب إلي مدرس خصوصي في مادة الرياضيات، وكان ذلك عام 1950 وأنا في المدرسة الثانوية.. وكنت أذهب إلي بيت الأستاذ مؤمن متخفياً. إذ كان عيباً أن يلجأ الطالب- أيامها- إلي الدروس الخصوصية.. ولكنني مضطر.. وبالمناسبة كان المدرسة يحصل مني علي خمسة قروش مقابل الحصة الوالدة.. تخيلوا؟! ولهذا كرهت الهندسة والجبر والكيمياء والميكانيكا.. والطبيعة.. وعشقت المواد الاجتماعية!!
<< ومازلت أتذكر دعواتها لي. ليس فقط «ربنا يعلي مراتبك» إنما هناك دعاء مازال يرن في ذاكرتي، يقول: ربنا- يا ابني- يخليك تعطي.. ما تستعطي!! أن تساعد الناس.. ولا تنتظر أن يساعدوك.. ومعه دعاء بنفس المعني يقول: ربنا يخلي ايدك هي العليا.. وليست السفلي. أي تعطي للناس.. لا أن تنتظر أن يعطوك..
ومازلت أثق أن أمي تراقبني. وتتابع خطواتي.. وكانت تثق أنني سأصبح يوماً شيئاً ما.. تري هل مازالت أمي تتابعني لتعرف أخباري.. وأمي هذه هي التي زرعت في كل حواسي كل قواعد «صلة الرحم» وأن «أصل حتي من قطعني» وأمي كانت وهي دمياطية المنشأ، إلا أنها كانت مبذرة! كانت مثل أبي رحمهما الله «إيدها مخرومة» فما إن تراني إلا وتأمرني أن أفرغ كل ما في جيوبي.. ودون أن أسألها كنت أعلم أن هذا كله سيذهب لمن ينتظر!!
<< فريدة.. وكانت فريدة فعلاً، وهي تحمل اسم فريدة قبل أن تعرف مصر الملكة فريدة. لأن أمي من مواليد عام 1910 رحمها الله وأسكنها فسيح جناته.. آمين يارب العالمين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف