(١)
أنظر إليها فى فتور متعمد وهى تسألنى بقلق ممزوج باللهفة عن نتيجة الامتحان التى ظهرت.. إنه العام الأول فى دراستى الثانوية، ولهذا فالنتيجة لن تؤثر كثيراً.. ولكنها لم تكن جيدة بالنسبة لى.. أعتقد أنه ينبغى علىَّ أن أجتهد بشكل أفضل فى الأعوام القادمة!!
أخبرها بالنتيجة.. لقد نجحت.. ولكننى لم أحصل على ما تمنيت من درجات!
أعرف أنها ستحزن ربما أكثر منى بمراحل.. ولكنها لم تظهر أبداً.. تؤمن أنه ينبغى عليها إظهار السعادة.. فقط كى لا أحزن!
كيف تفكر تلك السيدة؟.. كيف تتمكن من أن تطبطب على قلبى بهذا الشكل؟! كيف تمتلك كل هذا القدر من الطاقة الإيجابية؟..
الإجابة بسيطة.. إنها أمى.. فقط!
(٢)
لم أتخيل أنها ستعرف أننى أعانى من ضائقة مادية عنيفة..
هل يبدو علىَّ الضجر والضيق إلى هذا الحد؟!.. لم يعرف أحد أننى فى مأزق حقيقى.. حتى زوجتى.. ولكنها بطريقة ما عرفت.. إنها تبتسم فى طيبة معتادة... وتمنحنى مالاً أعرف جيداً أنه معظم ما تملك.. أرفض فى ضعف.. ولكنها تعابثنى فى غضب مصطنع: خد يا واد.. انت هتكبر عليا؟.. من إمتى بتقول لأ على فلوس!
متى تتوقف تلك السيدة عن إبهارى؟!
(٣)
ليلة امتحان الدكتوراه.. إنها الليلة التى لا ينساها أبداً كل من تعرض لهذا الموقف العصيب.. أخرج من الغرفة الضيقة بعد ساعات طويلة من المذاكرة فى أطنان من الكتب.. تسألنى فى إشفاق ألم تنتهِ بعد؟!
أبتسم فى ضعف وأنا أجيبها: العلم لا ينتهى يا أمى.. تنظر إلىَّ طويلاً.. ثم تهتف: «ربنا يوفقك يا ابنى انت واللى زيك»..
لقد وفَّقنى يا أمى.. لقد نجحت وحصلت على الدكتوراه.. ربما بدعوتك أنت فقط!
(٤)
أدلف إلى المطبخ فى هدوء.. تعرف من عينىَّ أننى سأقص عليها أمراً ما.. تبتسم وهى تمارس أعمالها اليومية التى لم تكل عنها أبداً.. أريد أن أتزوج.. أريدها أن تفاتح أبى.. أرى تلك اللمعة فى عينيها.. لقد كبر صغيرها ويريد أن يصبح رجلاً آخر.. لا أعرف كيف تقبل أن تأخذنى منها امرأة أخرى.. ولكنها قبلت.. كلهن يقبلن.. بل ويفرحن أيضاً!
يقول «شكسبير»: ترضع من أمك صغيراً حتى تشبع.. وتقرأ على ضوء عينيها حتى تتعلم القراءة.. وتأخذ من مالها كل ما تريد كبيراً.. حتى تأتى أُم أخرى تأخذك بلا مقابل.. وبرضا تام منها!!
(٥)
كان على العالم البلجيكى المعروف «بول هنرى» أن يلقى خطبة مهمة فى مجلس الشيوخ.. وكانت أمه حاضرة للجلسة.. فلم يكن منه إلا أن افتتح كلمته بـ«أمى.. سيداتى سادتى»!!
لا أذكر متى بدأت تلك السيدة فى جذب اهتمامى.. بل لا أحد يذكر أبداً متى بدأت تلك العلاقة الغريبة الفريدة.. إنها تهتم بأدق تفاصيل حياتك التى قد تنساها أنت شخصياً.. كل ما أعرفه أنها سبب مباشر ورئيسى فى ما وصلت إليه الآن.. وحتى فى ما سأصل إليه حتى نهاية حياتى!
إنها أمى.. وأمك.. وأمهاتنا جميعاً.. غنية كانت أو فقيرة.. جاهلة أو متعلمة.. كنت وحيدها أو كنتم عشرة من الإخوة.. كلهن نفس الإصدار.. لقد تعلمن أن يعطين بلا مقابل.. يمنحن الدفء والأمان حتى ولو افتقدنه..
كلهن هكذا.. كل النساء أنتِ يا أمى!!
كل سنة وأنتنَّ طيبات..