نصف الدنيا
نوال مصطفى
أروع من أن يكون حقيقة
كم هي إنسانة تلك المرأة.. كم هي ذكية وحساسة ونادرة.. سأظل أحبك يا «جيسيكا» ما حييت.. لا تندهش.. فالحب أكبر بكثير من مجرد علاقة جنسية أو زوجية أو حتى عاطفية بين رجل وامرأة.

أنا أحب «جيسيكا» وأحب «شهد»، لكن حبي للأولى مختلف عن حبى للثانية.. حُبِّي لـ«جيسيكا» حب ملىء بالانبهار بهذا النموذج الإنساني النقي إلى حد الشفافية.. النقاء البلوري المذهل، كما أنني أحمل لها الكثير من الامتنان لكل ما فعلته معي وفي حياتي، كما أحمل أضعاف هذا الامتنان للعناية الفائقة التي أحاطت بها ابنتنا «ليلى»، والتربية المميزة التي أنشأتها في ظلالها، فمنحتني ابنة أفخر بها.

أما حبي لـ»شهد» فهو حب الاكتمال.. نصف حبة الفول التي انقسمت منذ عشرات الآلاف من السنين وذهب كل نصف في اتجاه.. حملته رياح وحطت به في بلاد الله وأرض الله، وفعلت الرياح الشىء نفسه، ولكن في اتجاهٍ آخر وبلاد أخرى.. ثم.. وفي لحظة قدرية غامضة التقى النصفان لقاءً مدويًّا صاخبًّا.. «أنا» نصف حبة الفول الأولى، و«شهد» نصف حبة الفول الثانية.

الآن جاء الدور عليك يا «طارق».. ماذا ستقول لـ«جيسيكا»، وكيف ستصارحها بخططك في الإقامة بمصر؟ كيف ستخبرها بموضوع «شهد»؟ وكيف ستقول لها إن «ليلى» اختارت الإقامة في بيت «شهد» لا في بيتي بمصر؟ مهمة صعبة لكن عليك أن تتشجَّع يا بطل.

تفاجئه «جيسيكا» بسؤال مباغت:

- ما أخبار «شهد»؟

يرتبك قليلاً ويخفي ارتباكه بضحكةٍ ويقول:

- أنتِ أيضًا تعرفين «شهد»؟

ثم بلهجةٍ مازحةٍ:

- هل لديك كاميرات مراقبة تتابعين بها حركاتنا أنا و«ليلى» عن بُعد؟

تبتسم «جيسيكا» وتقول:

- تحدثني عنها «ليلى» كثيرًا، لدرجة أني أتوق إلى رؤيتها.. ليلى تحبها كثيرًا.. وتقول إنها ترغب في الإقامة معها في بيتها بعدما انفصلت عن زوجها.

ينظر إليها «طارق» بحيرة.. هل ينتهز هذه الفرصة الذهبية ويبوح لها بكل شىء؟ هل يمكن أن تتسع مساحة الغفران والتسامح داخلها لتقبل علاقته الوليدة بـ«شهد»؟ تلك العلاقة التي ولد معها من جديد وشعر معها بالانعتاق الحقيقي من القيود، وفك أسر نفسه من أغلال الشعور بالذنب والخطيئة؟

يجيبها بعد لحظات من الصمت:

- فعلاً «ليلى» تحبها كثيرًا وتجد نفسها فى بيت «شهد» الذى تحوَّل إلى ما يشبه بيت للثقافة والفنون، كثير من الكُتَّاب والفنانين والموسيقيين يلتقون هناك.. حتى الشباب جذبتهم الفكرة، وأصبح لهم الركن الخاص في بيت «شهد» القديم.. يسهرون هناك.. يتسامرون ويلقون أشعارهم، ويعزفون على العود والجيتار، ويغنُّون., شىء أشبه بجو «المونمارتر» في باريس يا «جيسيكا»، ولكن في بيت قديم بالسيدة زينب.

تبتسم «جيسيكا» وهي تُنْصِتُ بسعادةٍ لكلام «طارق» وتهز رأسها تعبيرًا عن انبهارها بهذا الجو الساحر الذي يصفه طارق، وتتخيل وهي تستمع إليه ذلك المشهد الخلاب بكل تفاصيله، ثم تطلق تنهيدة عميقة.. وتقول:

- أخيرًا اطمأننت عليك يا «ليلى».

يصوب إليها «طارق» نظرة متسائلة.. فتكمل كلامها قائلة:

- بصراحة يا «طارق» كنتُ قلقةً أخاف عليها من إحساس «اللامنتمية».. فهي هنا أوروبية وهناك إفريقية.. هنا إنجليزية وهناك مصرية.. تحمل اسمًا مصريًّا – رغم أنه انتشر الآن في بلدانٍ كثيرةٍ - وتحمل ملامح نصف أوروبية.

يبتسم «طارق» مؤيدًا وسعيدًا بتحليل «جيسيكا»، فكم أرقته هذه المشكلات وأقلقته، لكن «ليلى» وجدت نفسها أخيرًا مع «شهد» وفي أجواء بيتها الدافئة التي تنطق بالثقافة، وتشع بالفن والجمال.

- إذن ستبقين هنا يا «جيسيكا».. هل هذا هو قرارك الأخير؟

- نعم سأبقى يا «طارق».. وسترحل أنت و»ليلى» إلى أرض الفراعنة التي طالما أحببتها، وأحبتك.

وبلهجةٍ متسائلةٍ يبادر «طارق» قائلاً:

- إذن كيف سنصوغ شكل العلاقة يا «جيسيكا»؟

تسدد إليه نظرة نافذة وتقول:

- أتريد الطلاق يا «طارق».. إذا كنت تريده فلن أعترض.. سنظلُّ أصدقاء إلى الأبد مهما كانت علاقتنا..

يرتبك «طارق» من شجاعتها الفائقة فى مواجهة موقفٍ صعبٍ كان يحسب له قبل أن يأتى لزيارتها ألف حساب، ويقول:

- لا.. لا يا «جيسيكا».. أنا لا أريد الطلاق.. إلا إذا كانت هذه رغبتك، فالوضع ربما سيكون صعبًا عليك، والوحدة قد تدفعك للارتباط بشخصٍ آخر، وهذا حقك بالتأكيد.

تبتسم وتومئ برأسها.. وتقول:

- عندما يظهر فارس الأحلام يا «طارق» سأقول لك: طلقنى، وعندئذ أعتقد أنك لن تمانع.. مساحة التفاهم والمحبة والتقدير والاحترام بيننا تسمح لنا بالارتفاع بمستوى علاقتنا إلى هذا الحدِّ من الصراحة.. أليس كذلك؟

يهُّز «طارق» رأسه موافقًا ومتأملاً فى آن.. ويقول:

- إذن فأنت تريدين الإبقاء على علاقتنا كما هى؟

- نعم.. من أجل «ليلى».. أنا لا أريدها أن تشعر بتصدُّع حياتنا.. لا أرغب في أن ألقى بها فى بحر آخر من الألم.

وتكمل «جيسيكا» كلامها بلهجةٍ أنثويةٍ يفوح منها الذكاء:

- أما أنت يا «طارق» فمن حقك أن تتزوَّج.. ألا تمنحكم الشريعة الإسلامية الحق فى الزواج من أربع نساء؟

تربكه صراحتها أكثر.. وتتقطع الكلمات على شفتيه مراوغةً:

- زواج إيه؟ أنا لا أفكِّر في هذا إطلاقًا.

تسدد إليه نظرةً نافذةً.. وتقول بنبرةٍ أموميةٍ حانيةٍ:

- تزوج «شهد» يا «طارق».. لن أحزن، بل سأبارك هذا الزواج.. صدقني.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف