لكن ما خلط الأوراق، وجعل حزب الله موضع اتهام هو شئ آخر، هو الوضع العربي المرتبك المنهار القائم حاليا
اين الحقيقة في قضية حزب الله ؟، فقد لا نستسيغ وصف الحزب بالمنظمة الإرهابية هكذا بالجملة، وتاريخه مشهود لا ينكر في تاريخ المقاومة ضد إسرائيل والحروب معها، وقد مضت عشر سنوات علي آخر حروبه مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وكانت شعبيته وقتها في السماء السابعة، ثم جري عليها الانخفاض عربيا، بسبب انغماس الحزب في صراعات داخلية بعدد من الدول العربية، وبنفس طائفي كريه، وفي معية التوسع والتوحش الإيراني علي حساب الوجود العربي برمته.
نعم، لا ينكر أحد عاقل حق حزب الله، وقد كان عنوانا للمقاومة لوقت طويل، شغل ثلاثة عقود منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين مع الغزو الإسرائيلي للبنان، وقد ظهرت حركات مقاومة قومية ويسارية لبنانية قبل تأسيس حزب الله، ولقي الحزب منذ قيامه دعما مباشرا من إيران الخمينية، وتحول إلي مدرسة فريدة في تاريخ المقاومة العربية، توافرت لها حاضنتها الاجتماعية الشيعية، وأعادت تربية أبنائها علي دين الشهادة اقتداء بسيرة الإمام الحسين، وخاضت حروبا استشهادية بدت مزلزلة وقتها، أوقعت هزيمة فادحة بقوات «المارينز» الأمريكي في غمضة عين، وطورت حس الشهادة كأرقي قيمة إنسانية، وقارعت به أعلي قيمة تكنولوجية ملكها الأمريكيون والإسرائيليون، ودارت الحروب سجالا لسنوات، وهزمت فوائض القيمة الإنسانية فوائض القيمة التكنولوجية، ثم أضافت القيمة الإنسانية المتفوقة لنفسها دروعا من التكنولوجيا الممكنة، وطورت قذائف «الكاتيوشا»، ثم الصواريخ ذاتية الصنع، إضافة إلي ما حصلت عليه من إيران التي تفوقت في صناعات السلاح، وإلي أن تكونت قوة حزب الله، التي لم تعد إسرائيل تخشي سواها في المشرق العربي، فقد انتقلت تقاليد حزب الله إلي داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، ودارت حروب هي الأطول زمنا في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي كله، عجزت فيها إسرائيل عن تحقيق أي نصر، فقد تحولت المقاومة ـ علي يد حزب الله ـ إلي درع وسيف، ولم تعد مجرد مناوشات لقوة احتلال طاغية التسليح، وحققت النصر السياسي بعد الصمود العسكري، وأجلت العدو الإسرائيلي عن أراض محتلة في جنوب لبنان وجنوب فلسطين في غزة، ودون أن توقع صك تطبيع، ولا إنهاء لحالة حرب، ولا معاهدة سلام من العينة البينة، ولا تزال إسرائيل تنظر إلي حزب الله بوصفه الخطر الأول علي وجودها الاغتصابي، وتقول إن لديه ترسانة من مئة ألف صاروخ مع تدريب وخبرة متقدمة، وهي قوة لا تتوافرعربيا سوي في الجيش المصري.
إذن، فحزب الله كنز مقاومة، وليس منظمة إرهابية كما تصفها إسرائيل، ومعها مؤسسات عربية رسمية للأسف، لكن ما خلط الأوراق، وجعل حزب الله موضع اتهام هو شئ آخر، هو الوضع العربي المرتبك المنهار القائم حاليا، وتفشي الحروب الداخلية والأهلية في المشرق العربي بالذات، ودخول حزب الله طرفا في الحرب الطائفية السورية، ثم في حرب اليمن البائسة، وعلي الجبهات الداخلية لعدد من دول الخليج العربي، وهو ما أضعف من رمزية حزب الله كبندقية كانت متفرغة لمقاومة إسرائيل، وقد توسع حزب الله في تفسيره للتورط بالحرب السورية، وبأكثر مما تحتمله مهمة حماية ظهر المقاومة، وهو تفسير إن جاز نقاشه في سوريا، فلا يقبله عاقل لتبرير التدخل الطائفي السافر بسوءاته ومذابحه في العراق، ثم في دعم جماعات الشيعة في البحرين والسعودية والكويت وغيرها من دول الخليج، فالجبهة مع إسرائيل في الجنوب اللبناني وليست في «المنامة» عاصمة البحرين، وتدخل حزب الله في غير بلد عربي أضعف مصداقيته، وأفقده صفة الحزب العربي المقاوم ولو بدعم إيراني، وجعله يبدو في صورة الحزب والقوة الطائفية، وأغرت بوصفه بالجماعة الإرهابية في الخليج بالذات، خاصة أن خرائط تدخل الحزب هي ذاتها خرائط اشتباك الطوائف، ثم أن الحزب لا ينكر طبيعة روابطه الوثقي بإيران، ولا التزامه بمرجعية «الولي الفقيه» الحاكم في طهران، ولا اعتماده المالي والتسليحي الكامل علي إيران، صحيح أن السيد حسن نصر الله ـ الأمين العام لحزب الله ـ ينكر طائفية الحزب، ويقول إنه مع المقاومة أيا كان نسبها الطائفي، وعنده دلائل من نوع دعم حزب الله لفصائل المقاومة الفلسطينية «السنية»، وهو ما يبدو صحيحا إلي حد ما، لكن الحروب الأهلية والصراعات الداخلية ليست من أعمال المقاومة، وكان يجدر بحزب الله أن يتنزه عن الخوض في مستنقعاتها، وأن يترك لكل شعب عربي حرية تقرير مصيره بتوازناته الداخلية، لا أن يكون طرفا مباشرا في حروب «داحس والغبراء» المعاصرة، ولا أن يتورط في فتنة السنة والشيعة، والتي يستفيد بها الأمريكيون والإسرائيليون قبل غيرهم، ويتمنون أن تفني وتنهك قوة حزب الله علي جبهات أخري غير جبهة القتال ضد إسرائيل.
وقد يتصور البعض أن وصف حزب الله بالمنظمة الإرهابية يحاصره ويضعفه، أو يحد من قوته وأثره في لبنان والمنطقة، وهذا خطأ لو تعلمون عظيم، فلم يسبق لحزب الله أن تأثر بوضعه علي لوائح الإرهاب الأمريكية والإسرائيلية والأوروبية، وليس واردا أن يتأثر بإضافته علي لوائح إرهاب الجامعة العربية الميتة إكلينيكيا، فقد تحول الحزب إلي قوة اجتماعية وسياسية ضاربة فوق قوة السلاح الذي يملكه، ويرتكز علي حضور الشيعة في لبنان، وهم يمثلون الآن ما يزيد علي الأربعين بالمئة من السكان اللبنانيين، ولم يعد شيعة لبنان هم الطائفة الفقيرة المحرومة التي كانت، بل صاروا الرقم الأصعب سياسيا واقتصاديا في معادلة لبنان الداخلية، وهو ما يفسر امتناع أي طرف لبناني عن وصف حزب الله بالإرهاب، ليس حبا بالضرورة، ولا ولاء لمبدأ مقاومة إسرائيل، بل خوفا علي سلامة لبنان نفسه، وحفظا لوجوده الهش، ومنعا لخطر الانزلاق إلي حرب أهلية وصدامات شارع مهلكة، خصوصا مع تزايد مخاطر «داعش» و»النصرة» وأخواتها، والتي لا يردعها في لبنان سوي وجود حزب الله.