حملتنى أقدام التسكع إلى شوارع وسط القاهرة، تطاردنى كل هموم الواقع، تركض خلفى وحوش ترتدى أقنعة كئيبة. أشاهدها خارجة من كل الشوارع المؤدية إلى ميدان طلعت حرب، ألوذ بالتمثال الواقف فى صمت شاهد أخرس، تحاصرنى الوحوش كل واحد منها يطلب (مصروفات المدارس -إيجار الشقة -بنزين السيارة -موعد الاجتماع -فلوس الجمعية -ندوة تحديات الواقع)، لم أعد قادراً على تحمل مطالب الوحوش التى تحاصرني.
شوارع رأسى الخالية من أى مارة، تعبرها فجأة سيارة مسرعة، سماعات السيارة تحمل صوت المطرب الشعبى (أنا مش عارفني، أنا تهت مني، أنا مش أنا)، و المجنون الذى يقود السيارة، يغمز لى بعينه قائلاً : (إهرب) .. أنظر إليه وأنظر إلى الوحوش التى تحاصرنى وأتخذ قرار الهرب عبر الحيلة التقليدية القديمة أرفع رأسى فجأة إلى السماء و أهتف فيهم جميعاً :
«بصوا العصفورة».
ولأنها حيلة تقليدية وقديمة ومن غير المتوقع أن تخرج مرة جديدة للنور نظروا ... وهربت
الشارع التجارى كل محاله تعلق دعاية واحدة، مكتوبة بالقطن الملون (يارب خليكى يا أمى )، وأحياناً بأوراق الزينة التى تتدلى فى أعياد الميلاد (كل سنة وست الكل طيبة)، وهناك محال تجاوزت الواقع التقليدى إلى تفعيل ثورتى (25 يناير -30 يونيو) فى الدعاية، فاستخدمت صوراً لأمهات الشهداء والثوار وطبعتها على لافتة بلاستيكية حوت كلمات (الأم ثورة .. كلنا ولادك يا أم الشهيد)، و بالطبع لم يخل الشارع التجارى من محال صبغت دعايتها بالمرجعية الدينية لتؤكد هوية سياسية، فإلى جوار شعار الحزب الدينى المعلق على زجاج أحد المحال، الذى يقف صاحبه أمامه يرتدى جلبابا يظهر عنق الجورب الصوف البني، يمكنك أن تقرأ كلمات قطنية تلتصق بواجهة المحل تقول ( قال أمك ثم أمك ثم أمك) وتحتها «حديث صحيح»!فى حين يضع محل آخر تمثالا أبيض للسيدة مريم العذراء وهى تحتضن صغيرها وحولهما مكتوب بنفس القطن الأبيض (وكانت أمه تحفظ جميع هذه الأمور فى قلبها) و بخط صغير مكتوب (لو 2: 51).
كان الركود التجارى مسيطراً، و كانت (الأم) هى فرس الرهان فى سباق البحث عن قرابين تقدم لوحوش تلتهم كل شئ برتابة أول كل شهر.
على كرسى المقهى العتيق بالممر الصغير المتفرع من شارع (شريف)، جلست فى ركن تحجبنى فيه عن الأنظار مجموعة من الكراسى القديمة التى تتعاشق متماسكة كتلة واحدة، و رغم فقد الكراسى لكل مؤهلات الصلاحية، إلا أن صاحب المقهى يأبى أن يفرط فيها، قال لى وهو يعد الماركات بصوته الغليظ غير المكترث: (من ريحة الأيام الجميلة يا أستاذ). لاحت الوحوش فى أول الممر فلملمتُ بقايا ظلى الخارجة من بين ساتر الكراسى و هربت منها إلى فرس الرهان فى سوق الكساد (الأم).
اشتقت إلى أحضانها، أدفن نفسى فى كهوف بدنها الحميمة هرباً من تأديب أبي. واشتقت إليها فرحة مكتومة بسبب تهديد عيون الجارات الواسعة و هى تسمع صوتى يهتف (نجحت يا ماما). واشتقت إليها سعادة خجلى، وهى تعنفنى على خطاب غرام دسته لى إحدى زميلات درس الرياضيات دون أن أدرى و وقع فى يدها قبل أن أقرأه. فقررت تعنيفى على ذنب لم أرتكبه و رجولة بلغتُ أعتابها بخطاب غرام و شارب يصارع بشرة كانت بور. واشتقت إليها طبق (مسقعة) يغرينى و أقبل غوايته، فتسارع لتحميص رغيف خبز يؤكد لها أن ابنها لم تنسيه أنفاس زوجته نفسُها الأصيل فى طعام الفطرة.
واشتقت إليها يقيناً يدفع للمواصلة، يقف فى برودة ليل يناير أمام زوار الفجر، يفتح الباب المغلق عليها والصغار، ويقف بين عشرات المدافع الرشاشة والوجوه الغليظة ويشير بيد ثابتة نحو غرفتى وكتبى التى يسكنها (أنطون تشيكوف وجلال أمين وبهاء طاهر وبيرم التونسى والماركيز) وأوراقى التى تحاول أن تكون، تجتاحهم أيادى زوار الفجر يسألونها (هوا إبنك شيوعى و لا إخونجي؟)،ترد دون أن تخفض رأسها (هوا إبنى و بس)! اشتقت إليها بكل تفاصيل القرب و البعد، الفرح و الحزن،والحنان و الشدة، الحب لى و الغيرة عليّ.
قبل أن أحاسب عامل القهوة سألته (ح تجيب إيه لأمك فى عيد الأم).ضحك وهو يظهر أسنانه المرتقة بأصباغ النيكوتين و بقايا علبة كشرى (ح أجيب لها كيلو لحمة ضاني، حاكم أمى تعز اللحمة رغم إنها ما بتزورهاش إلا كل حين و مين).
على باب القهوة كانت الوحوش فى انتظارى قالوا لى و هم يحكمون قبضتهم على قلبى (وقعت يا حلو ومش ح تعرف تهرب)،أكدت لهم أننى كنت فى طريقى إليهم، و طلبت منهم فقط أن يمهلونى دقيقة، وأخرجت هاتفى من جيبي، وكتبت فى خانة الأسماء باللغة الإنجليزية (mama)، فظهر الرقم و لم يطل إنتظارى قلت (أنا آسف ياست الكل الدنيا ملخبطة معانا، بس حبيت أقول لك كل سنة و إنتى طيبة)، ضحكت و قالت (بكاش) ومنحتنى دعوات جعلتنى أقوى و أنطلقت مع وحوش لا تفارقني.