د/ شوقى علام
السياسة الشرعيَّة وفقه الدولة (9) مفهوم الحكم
اتفق العقلاء على أن الحكم ليس لقبًا فيُعطَى لكبير أو عظيم، بل هو مسئولية كبيرة وسياسة حقيقية وتكليف لا يكون إلا بثقة الشعب لتحقيق مصالحه والدفاع عن مكتسباته وهويته. ولقد أقام النبى صلى الله عليه وسلم للناس أمر دنياهم على أبدع مثال؛ حيث جمع الأمة على مقتضى الوحدة، وجعل لها قوانين ينبغى مراعاتها فى المعاملات والأخلاق سواء الفردية أو الجماعية، ووفر لها الموارد المالية والاقتصادية، كما عمل على تحقيق العدل بين المظلوم والظالم فقضى وعزَّر وأقام الحدود، ودافع عن هويتها وأمَّن بلادها طرقًا وحدودًا، وقاتل أعداءها ومن يسعى لتفريق وحدتها، وعقد المعاهدات والتحالفات بينه وبين المخالفين متى جنحوا إلى السلام، وأسس للحرية والتعايش السلمى وكذا نشر العلم والتعليم، سواء باشر ذلك كله بنفسه الشريفة أو فوَّض مَنْ يقوم بذلك نيابة عنه.
نعم لم يُطلَق قديمًا الحكم ويراد به الهيئة التى تتولى السلطة فى بلد أو قبيلة، وإنما كانوا يطلقون عددا من المصطلحات كالأمير والخليفة وولى الأمر والسلطان على هذه المعاني، وهى معان لاحظها المسلمون عبر تاريخهم فقاموا بتعريف المهام والوظائف التى يقوم بها صاحب هذه المعانى بصرف النظر عن المسميات؛ فشرطوا جملة من المؤهلات ينبغى مراعاتها فيمن يشغل بهذا المنصب الرفيع حتى يحوز ثقة الأمة ورضاها، وهى تؤسس لأن يكون الحكم رشيدًا، يراعى القوانين والأعراف، ويعمل بمقتضى سنن العدل والمصلحة . ولا ريب فى أن غاية الحكم وأهدافه تتلخص فى أنه مهمة إدارية تقوم على تنظيم المجتمع وصون أمنه الداخلى والخارجى وتيسير سبل تماسكه ونموه وإنتاجه، وهى كذلك ليست بحال تشريعية؛ فالتشريع مهمة المختصين، سواء مؤسسات أو هيئات أو أفراد؛ بعيدًا عن مبدأ الثيوقراطية الذى يُشرع الحاكم فيه باسم الله استقلالًا، دون مراعاة لما تقتضيه مصالح العباد والبلاد وما يرفق بحالهم، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك بتفصيل فى مقالات سابقة.
والناظر فى السنة النبوية وتاريخ الأمة يجد أن الحكم يوضع فى فرد واحد، ولا يكون فوضى فى عدد كثير، وإنما يعاونه فى تنفيذ مهامه وزراء ومؤسسات وهيئات على سبيل التفويض. وتؤكد طريقة تعيين الخلفاء الأربعة الأُوَل رضى الله عنهم ثم ما استجد من طرق فى هذا الشأن أنه ليس هناك نظام معين فى ذلك من قِبَلِ الشرع، وأنه وإن أجاز بيعة أهل الحَلِّ والعقد أو تولية العهد من بين بدائل كثيرة إلا أنه لم يُلْزِم بهما أو يَلْتَزِمْهما، ومن ثَمَّ لا يمنع ولا يفرض نظامًا معينًا لصورة الحكم، سواء كانت هذه الصورة ملكية أو جمهورية أو أى نظام آخر يتفق عليه الناس ويحقق مصالحهم العليا، كما أنه لا مانع فقهًا من الانتقال من نظام إلى آخر إذا ارتضى الشعب ذلك واجتمعت عليه كلمتهم.
كذلك نرى سبقًا للمسلمين فى نظام الحكم يقوم على ترسيخ مبدأ أن سلطة الحكم مستمدة من إرادة الشعب وثقته؛ حيث إنه هو الذى يضع نظام الحكم ويختار المسئولين ويراقب أعمالهم ويحاسبهم، يقول العلامة محمد بخيت المطيعى مفتى الديار المصرية سابقًا فى (حقيقة الإسلام وأصول الحكم): «إن المسلمين هم أول أمة قالت بأن الأمة هى مصدر السلطات كلها قبل أن يقول ذلك غيرها من الأمم»، ويقول الشيخ عبد الوهاب خلاف فى (السياسة الشرعيَّة ص 29): «أمر الأمة بيدها وهى مصدر السلطات»، وهذا لا يتنافى مع المرجعية التشريعية للأمة، وقد سبق بيانها فى مقالات سابقة.
وكل ذلك مُراعى عملا وتنظيرًا فى مصر من عقود بعيدة، ودُبِّج فى دساتيرها من بدء ظهور الدولة الوطنية بمشاركة الأزهر الشريف وعلمائه، بل نصَّ عليه الأزهر الشريف صراحة فى وثيقته حول مستقبل مصر الصادرة فى 19 يونيو 2011م، وجاء فى بند (أولًا): «دعم تأسيس الدولة الوطنيَّة الدستوريَّة الديمقراطيَّة الحديثة، التى تعتمدُ على دستورٍ ترتضيه الأمَّة، يفصلُ بين سلطات الدولة ومؤسساتها القانونيَّة الحاكمة، ويحدِّد إطار الحكم، ويضمنُ الحقوق والواجبات لكلِّ أفرادها على قدم المساواة، بحيث تكون سُلطة التشريع فيها لنوَّاب الشعب، بما يتوافقُ مع المفهوم الإسلامى الصحيح، حيث لم يعرف الإسلام لا فى تشريعاته ولا حضارته ولا تاريخه ما يعرفُ فى الثقافات الأخرى بالدولة الدينيَّة الكهنوتيَّة التى تسلَّطت على الناس، وعانت منها البشريَّة فى بعض مَراحل التاريخ، بل ترك للناس إدارة مجتمعاتهم واختيار الآليَّات والمؤسسات المحقِّقة لمصالحهم، شريطة أنْ تكون المبادئ الكليَّة للشريعة الإسلاميَّة هى المصدر الأساسى للتشريع، وبما يضمنُ لأتباع الدِّيانات السماويَّة الأخرى الاحتكام إلى شَرائعهم الدينيَّة فى قضايا الأحوال الشخصيَّة».
وخلاصة القول إن الحكم فى السياسة الشرعيَّة من الحقوق العامة المشتركة بين حق الله تعالى وحقوق الآدميين، وإنه عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار على توليه، وإنه ولاية تفتقر إلى عقد، والعقود لا تصح إلا بمباشرتها من قِبل المتعاقدين بالوسائل المشروعة، وإن الحاكم لا يختص بالحق فيه وحده، وإنما هو حق المواطنين جميعًا.